آخر تحديث: 15 / 12 / 2025م - 11:18 م

وحدي في حضرة الغياب

عبد الباري الدخيل *

في صباحٍ إسباني مشمس، أعقب ليلة ماطرة، كان يمشي بين الشوارع العتيقة، والغياب يمشي معه.

كل شيء في المدينة يلمع؛ الحجارة التي تحفظ آثار حضارات مرّت هنا، الأزقة التي تتحدث بكل اللغات، والهواء المشبع برائحة الفن.

ومع ذلك… كان يشعر أن هناك قطعة ناقصة في لوحته.

وقف أمام نافذة مقهى صغير، طلب قهوة وفطيرة، وشغل فراغ الانتظار بكتابة رسالة عبر الهاتف، ولم يجد إلا الشعر يعبر عن حالته:

‏كلٌ لهذا البردِ يحمل معطفاً... من ذا يبيعُ معاطف الأرواح ِ

فالزمهريرُ البعد عن أحضانهم... أحضان ُ من أهواه دفءُ صباحي

حاول أن ينشغل عن الغياب بالحاضر، فدخل متحف الملكة صوفيا، سار بين أروقته، رأى لوحات بيكاسو ودالي، لكنه لم يلتفت كثيرًا إليها.

كان ينظر حوله وكأنه يبحث عن يدٍ تمسك بيده وتسحبه نحو لوحة أخرى.

لماذا يتذكرها وقد رحلت مع رجل آخر؟

يتذكرها لأنها الوحيدة التي كانت تفهم انبهاره بالفن، وكانت تلتقط دهشته قبل أن تظهر في عينيه.

وفي متحف «البرادو» ازداد شعوره بحضورها، شاهد فتاة تشبهها، فأحس بوخزةٍ في صدره، وكأن قلبه انقبض، هنا أدرك أنه لم يأت ليشاهد اللوحات بل جاء يبحث عنها في وجوه العابرين، وبعد أن ظل صامتًا للحظات، تخيّل أنها هنا تميل برأسها على كتفه وهي تحدّق في لوحة تهزّ الروح، أو تمسك بيده فجأة وهي تقول بدهشة الأطفال: تعال انظر.. يا الله، ما هذا الإبداع؟

كان يسمع صوتها في داخله همسًا، ”ففي المتاحف يخفض الناس أصواتهم في حضرة الفن“.

رآها في خياله وتنقّل معها بين لوحات روبنز، وفيلاسكويز، وموريللو، وجويا.

توقف طويلًا أمام لوحة «الوصيفات»، اللوحة التي حيّرت حتى بيكاسو، تشعر بأن الرسام داخلها يحدّق فيك: أنحن هنا ليرانا الرسّام أم جئنا لنراه؟

تردد في ذاكرته حديث سابق: هذه أكثر اللوحات إثارة للجدل… انظر إلى الرموز، إلى خلفية المشهد.. هل تراها؟

وعندما مرّ بلوحات «موريللو»، ورأى لوحة «فتاة الزهور»، ووجوه الأطفال البريئة، همس في نفسه: ليتك هنا… ليت ابتسامتك تنير ألوان اللوحة.

حتى سوداوية «جويا»، لم تطرده من دائرة السحر، بل أعادته إلى صوتها الذي كان يهمس دائمًا: لننطلق إلى بيكاسو… هناك شيء ينتظرنا.

خرج من المتحف.. وقف عند الدرج، أغلق عينيه لحظة، ففي كل بهاء جذّاب رآه كان هناك فراغ صغير يشبه غيابها.

همس: هنا كل شيء إلا أنت.. هنا شاهدت كل ما يخطف القلوب.. إلا ابتسامتك. لذلك كل سحر أراه الآن يبدو ناقصًا، حتى لو كان لوحة لبيكاسو.

ومع ذلك، تابع السير ويداه في جيب معطفه، يبحث عن دفء يد لم تعد له، يمشي بخطوات متقاربة كأنها تمشي معه.. ويبدو أن السفر لم يشفه من غيابها.