آخر تحديث: 15 / 12 / 2025م - 11:18 م

البوصلة المفقودة

ياسين آل خليل

إنّ أعظم ما يحتاجه الإنسان في حياته، هو أكثر ما يفتقده النظام التعليمي العالمي في جوهره. فمنذ نعومة أظفاره، يُقاد الطفل إلى قاعات الدراسة ليحفظ ويكرّر ويجتاز، لا ليكتشف ويشعر ويعبّر. يكبر وهو يتقن الإجابة، لكنه يفقد تدريجيًا فضيلة السؤال. يبرع في حلّ المعادلات، لكنه يعجز عن حلّ ألغاز نفسه.

النظام التعليمي العالمي، من المرحلة الابتدائية حتى الدراسات العليا، يكاد يتجاهل العالم الداخلي للإنسان، ذاك العالم الذي يحكم سلوكه، ويُوجّه اختياراته، ويشكّل رؤيته للحياة. فلا أحد يُعلّمه كيف يتعامل مع الخوف، أو كيف يواجه الرفض دون أن ينكسر، أو كيف يُعبّر عن غضبه دون أن يؤذي نفسه أو غيره. لا أحد يُحدّثه عن مشاعره، أو يُعلّمه الإصغاء لصوته الداخلي وسط صخب العالم.

الطفل في بداياته يُولد بفضولٍ فطري، بشغفٍ للحياة، وبقدرةٍ مذهلة على التعلّم من التجربة، أما المألوف عن التعليم التقليدي فإنه يُبدّد تلك الطاقة شيئًا فشيئًا، حين يُقاس النجاح بالدرجات لا بالنضج، وبالامتثال لا بالفضول. أما حين يُهمل النظام التعليمي تنمية النفس، فإن الإنسان من الطبيعي أن يفقد توازنه لاحقا، فيكبر وهو يحمل العديد من الشهادات، لكن قلبه هشّ، وروحه جائعة إلى المعنى.

كم نحتاج إلى تعليمٍ يُغذّي الجوانب التي تُبقي الإنسان إنسانًا.. تعليمٍ يُنمّي الوعي الذاتي، فيتعلّم المرء أن يراقب أفكاره ومشاعره. تعليمٍ يُربّي الذكاء العاطفي، فيتعامل مع الآخرين بتفهم لا بردود فعل. تعليمٍ يُعلّمه فنّ التواصل الحقيقي، لا الاكتفاء بالكلمات الجوفاء. تعليم يُحفّز الخيال والإبداع، لأنّ الخيال هو نافذة الروح حين تضيق الحياة. تعليم يُرسّخ المرونة النفسية، ليعرف أن السقوط لا يُنقص من الكرامة شيئًا، بل هو خطوة في طريق النضج. تعليم يُدرّب على السكينة، فيتعلم كيف يهدأ وسط الضجيج، وكيف يصغي لصمته الداخلي.

هذه القيم ليست كماليات، بل هي أركان البناء النفسي للإنسان. هي التي تحدّد مدى السلام الداخلي للفرد، وقدرته على العطاء، واستعداده للتعامل مع قسوة الحياة بلطفٍ واتزان. النظام التعليمي العالمي الحالي يزرع في العقول معارف كثيرة ومتنوعة، لكنه نادرًا ما يزرع في الأرواح جذورًا عميقة. ولهذا نرى كثيرين يخرجون إلى الحياة مثل أشجارٍ بلا تربة، مهما علت أغصانها، تبقى مهدّدة بالاقتلاع عند أول عاصفة.

كم نحن بحاجة إلى ثورة هادئة في مفهوم التعليم، ثورة تُعيد إليه معناه الأول.. أن يُعلّمنا كيف نعيش..! بعدها.. كيف ننهل من مناهجه فن التوازن بين العلم والحكمة، بين المعلومة والقيمة، بين النجاح المهني والنضج الإنساني. نحتاج إلى تعليمٍ يُنير الداخل قبل أن يُزيّن الخارج. فما نفع العلم إن لم يُهذّب النفوس..؟ وما جدوى الشهادة إن لم تمنح صاحبها القدرة على أن يكون إنسانًا في المقام الأول..!

البوصلة الحياتية ليست أداة تُمنح، بل وعيٌ يُغرس. وحين يُدرك التعليم هذه الحقيقة، يبدأ الإنسان رحلته الحقيقية نحو ذاته، ونحو حياة تستحق أن تُعاش. حين يتّسع التعليم ليشمل الإنسان بكلّيته، بعقله وقلبه وروحه، حينها فقط، يمكن أن نقول إننا تعلّمنا حقًا.