آخر تحديث: 13 / 12 / 2025م - 11:09 ص

محاكاة الحادثة بـ ”بقايا ثوب“.. حميد السيف يعلن تضامنه مع المنكوبين

جهات الإخبارية جعفر البحراني

كتاب ”بقايا ثوب“ لحميد السيف، هو مجموعة قصص قصيرة نشرت في العام 2002 م، وما من شك أن هذه النصوص كتبت في فترات مختلفة، وفي ظروف نفسية متفاوتة، لكن ما يميّزها هو صبغة الحزن التي ترتسم على خطّها السردي، فأي قصة تقرؤها في هذه المجموعة تجد حزنًا هنا أو همًّا هناك، وكأنّ حالة الحزن قد فرضت نفسها على شخصيات هذه القصص التي اصطبغت بالتوجس حينًا وبالخوف حينًا آخر، ثم بالموت الذي يخطف الأحبة على حين غرّة.

ولعل ما يفسر هذه الركيزة في هذه القصص هو تفاعل الكاتب مع حادثة حريق القديح المأساوية، وقد ألمح لها الكاتب في مستهل هذه المجموعة، من خلال الإهداء الذي قدّمه لجميع العاملين في جمعية مضر الخيرية بالقديح، ومن جانب آخر عندما ذكره صراحة في القصة الأولى التي حملت المجموعة عنوانها قائلًا بين هلالين: ”ذكرى سنة على كارثة القديح“ (ص: 18).

فالشخصية الرئيسة في هذه القصة ترتسم على محيّاها مسحة من الحزن الذي لا تفسير له، رغم أنها صبوحة الوجه، وكانت نفسها تنقبض من مواعيد الزفاف فقد أشعرتني كقارئ أنّها تتهرب من حضور أي زفاف أو الحضور فيه أثناء الاحتفال، وكأنّها كانت على موعد مع هذه النهاية المأساوية دون أن تدرك ذلك، فكانت مسحة الحزن قد ارتسمت على سحنتها دون أن تفارقها، حتى أكدت الحادثة بأنّها كانت على موعد مع هذا المصاب الجلل بكل أبعاده.

ويبدو أن الكاتب استشعر هذه الحادثة وجدانيًّا بكل حواسّه، وسجل حضورها في نفسه قبل أن تصطبغ أوراق القصص بهذا الحبر الذي صبّه على شكل وجع، وأظهره للعيان بعد عام في مجموعة قصصية؛ ولهذا كانت عبارة ”ذكرى سنة على كارثة القديح“ شاخصة في نهاية النص الأول.

ولعل هذا أيضًا كان كافيًا لتبرير المباشرة في السرد حينًا، وإهمال العناوين حينًا آخر، حتى بدت واتسمت بالبساطة المفرطة، وعدم التزام النص بالرمزية والإشارية واستخدام مفردات لغوية معقدة دلاليًّا وإشاريًّا، وذلك لتأكيد وتدعيم هذه الكارثة واستحضارها دون مواربة لاستشعار جوانبها الإنسانية، وهذا يؤكد مستوى التعاطف الذي اختلج في نفسه مع هذه الواقعة، فسجّل بقلمه جملة من الانفعالات تعبيرًا عنها وعن الأشخاص الذين فقدوا فيها والأشخاص الذين عانوا من جراء هذه الحادثة جسديًّا ونفسيًّا سواء من المصابين أو من المنكوبين ممن يعيشون مرارة الفقد في هذه الحادثة المروعة التي تعاطف معها القريب والبعيد لفظاعتها، عندما انقلب الفرح إلى حزن وانتقلت عوائل وأسر كثيرة من بيت السعادة إلى بيت الأحزان.

بعض هذه القصص حملت تفاصيل وأحداثًا، وبعضها الآخر جاء على شكل ومضة سريعة، وبينما تشعرك بعض القصص بحالة من الهذيان لتضعك في الحالة النفسية التي تعيشها الشخصية، تنطلق بك قصص أخرى في تساؤلات كبيرة فتجد سؤالًا يقول: ”المطر هدية السماء إلينا.. فما هي هديتنا إلى السماء؟“ (ص: 81)، وسؤال آخر يقول: ”كم يحتاج الإنسان من زمن حتى يصل معراج الروح؟“ (ص: 138).

تتحدث غالبية القصص عن فقد الأحبة، وعن المفجوعين بمن أحبّوا، وكيف كان الجميع على موعد مباغت، ومصير محتوم جاء دون سابق إنذار لينقلهم من واقع لآخر، وكيف تحل الفاجعة وترتسم خيوطها على حين غفلة أو حتى في أوج النباهة، فنجد مثلًا فتاة تنتقل من محفل عرس قد ذهبت إليه بشكل مخصوص إلى محفل آخر لم يكن في حسبانها أن تذهب إليه، وما إن تدخل حتى تحل الكارثة وكأن القدر ينقلنا للمصير الذي كتب لنا سواء بِداعٍ أم دون داعٍ.

تتميز هذه المجموعة بأنّ أغلب شخصيات القصص من النساء والأطفال، ولا غرابة في ذلك فهم المنكوبون في هذه الحادثة، حيث أمّ العروس وأخواتها، وصديقاتها والأمهات الكبيرات، والأطفال الصغار من الذكور والإناث.

ولقد تحدثت المجموعة أيضًا عن المكان فكانت القرية، والقرى الأخرى، والمدينة، وبهو الأفراح، والخيمة التي أُعدّت للاحتفال بالعرس، والمستشفى، والبيت، والشقة، والمقبرة، والمطار، ولا غرابة في ذلك فهذه المجموعة من الأماكن مشحونة بالموت حينًا وبالوجع حينًا آخر، فالعوائل والأسر المنكوبة قد مرّت بهذه الأماكن سواء بسبب فقيد أو بسبب جريح، أو بسبب من يلقون مصيرهم المحتوم بعد أيام من الحادثة وبعد تلقيهم علاجات لم تكن كافية لتنقلهم كي يكونوا بين الأحياء، فضلًا عمّن تطلبت حالاتهم نقلهم للخارج سريعًا لتلقي العلاج بسبب الحروق العميقة التي شوّهت تلك الأجساد والوجوه فأخضعتهم لعمليات تجميل قاسية.

تفاوت الزمن بين الليل والنهار وبين الظهيرة والعصر، وبين اليوم والأسبوع والشهر والعام، كما تحدثت القصص عن الماضي والحاضر والمستقبل، كما تحدثت إحدى القصص بشكل مباشر بعد عام على حدوث الفاجعة وذكرت الموت حرقًا من خلال تساؤل إحدى الشخصيات التي كانت تعيش مرارة الفقد تقول: ”صحيح أنها ماتت محترقة.. وصحيح أنّها لن تعود إلينا بعد ذلك؟“ (ص: 25).

وكانت القصص الأخرى تتحاشى هذه الصراحة، وتحاول أن تنكرها، وهذه حالة طبيعية من الجانب النفسي، فالإنكار هو آلية دفاع نفسية يتجاهل فيها الشخص الواقع المؤلم أو المزعج عن طريق رفض الاعتراف بحدوثه، ويمكن لهذا الإنكار أن يكون قصير المدى ليحمي النفس بشكل مؤقت من الضغوط الشديدة، دون أن يصبح عائقًا فيؤثر على قدرة الشخص في التعامل مع المشكلات المختلفة.

حملت المجموعة نصوصاً ليس لها صلة بحادثة القديح مثل قصة ”السيّارة“ وقصة ”حمد“، لكنّ هاتين القصتين تتقاطعان مع القصص الأخرى في كل ما يتعلق بالفقد وموت الأحبة وموت الشباب الذي ينتظر لقاء حبيبه الذي بات وشيكًا، فيجد أن الموت قد سبق هذا اللقاء بدقائق وثوانٍ.

ومن القصص التي ليس لها صلة بحادثة حريق القديح أيضًا في هذه المجموعة قصة ”كم هو الفرق؟“ وقصة ”الطفل الصغير“ وقصة ”يوم في الذاكرة“، وقصة ”لحظة صعبة“ وقصة ”القرار“ و”مسارات“، غير أن ”مسارات“ لا يمكن أن نقول عنها قصة بل هي عنوان تضمّن أربع قصص قصيرة، كانت بأجمعها تلامس الحياة الاجتماعية العامة، فالقصة الأولى تحكي عن طموحات طفل صغير لم تسعفه سيارة مسرعة بأن يحقق منها شيئًا، والقصة الثانية تحكي عن لحظة وداع حقيقية لمن سيلقون حتفهم، فنجد فتاة تودع أختها وتطلب منها أن تهتم بوالدتها ثم تموت بعد ذلك في حادث أليم، القصة الثالثة تحكي آخر لحظات معركة مؤتة حيث كان كل قائد يوصي بالآخر حتى قتلوا بأجمعهم، وأما القصة الرابعة فهي تسجيل حقيقي لمن يعمل بصمت ويقدم لمجتمعه سبل العيش الرغيد، بينما المجتمع يتنكر له ولا يعترف بفضله إلا بعد موته.