آخر تحديث: 14 / 12 / 2025م - 11:08 م

من ذاكرة مريض… حين عاد العمر من جديد

رضي منصور العسيف *

ماذا لو كُتب لك عمرٌ جديد؟

هكذا بدأ حديثه معي… بصوتٍ فيه رجفة اعترافٍ لا تخطئها الأذن، حين سألته عن موقفٍ لا يزال عالقًا في ذاكرته كأن الزمن توقّف عنده.

أسند ظهره إلى المقعد، وأغمض عينيه لثوانٍ… وكأنه يعود بذاكرته إلى حافةٍ مظلمةٍ من حياته، ثم فتحهما ببطء وقال:

— هناك لحظات يا صديقي لا تُقاس بالسنوات، بل بالنبض. لحظاتٌ كان بيني وبين الموت خيطٌ رفيع… لو انقطع لما كنتُ الآن أمامك.

تنفّس بعمق، وكأنه يزيح عن صدره تعب تلك السنوات، ثم بدأ يسرد:

كنت يومها أعمل في الجامعة، مثقلاً بضغوط الامتحانات، وفي الوقت نفسه كنا ننتقل إلى المبنى الجديد… وهذا يعني نقل أدوات المختبر بدقّة شديدة ومسؤولية كبيرة.

كنتُ أشعر بتعبٍ يزداد يومًا بعد يوم، وكان بعض الزملاء يلمحون في وجهي إرهاقًا لا يُخفى، ويقولون لي:

— أنت مريض… اذهب واسترح. دعنا نقوم بالعمل عنك.

لكنّي كنت عنيدًا بطبعي… أصرّ على أن أُنجز العمل بنفسي، وكأن شيئًا خفيًا يدفعني للاستمرار رغم الإنهاك.

وفي أحد الأيام… شعرت أن قدميّ لم تعودا تحملانني، وكأن الأرض تهتزّ من تحت روحي نفسها. عندها فقط التفتُّ إلى أحد أبنائي وقلت له:

— الآن… لا مفر من الذهاب إلى المستشفى.

وعند وصولنا، تذكرتُ أن الدكتور «س» قد طلب مني سابقًا إجراء بعض التحاليل، فقلت لابني:

— لنذهب للمختبر أولًا… ثم ندخل الطوارئ.

وهذا ما فعلناه.

جلستُ في قسم الطوارئ أقاوم دوخةً ثقيلة، والطوارئ مزدحمٌ كعادته. وبعد نصف ساعة… رنّ هاتفي برقمٍ لا أعرفه، وفي اللحظة نفسها نادى اسمي ممرض الطوارئ.

نظرتُ إلى الهاتف مترددًا… أأجيب أم أدخل؟

دخلتُ على الطبيب بينما الهاتف لا يزال يرن بإلحاحٍ غريب.

قلت للطبيب:

— اسمح لي… أريد أن أجيب.

فتحت الهاتف… وسمعت صوتًا قلقًا يقول:

— أنت عبد الرحيم الذي أخذنا منه عينة دم قبل نصف ساعة؟

قلت: نعم.

قال: عليك أن تعود للمستشفى حالًا… فورًا.

قلت له:

— أنا في المستشفى الآن… في الطوارئ… أين أنت؟

رفعت رأسي… وإذا به الطبيب «س» يقف أمامي، بدهشةٍ واضحة على ملامحه.

قال لي بقلق:

— كيف حالك؟ كيف تقف هكذا؟!

قلت له باستغراب: وما الأمر؟

اقترب مني وقال:

— نتيجة فحصك تشير إلى أنك تعاني من انخفاضٍ شديدٍ في الهيموجلوبين… خطير جدًا.

وبسرعة، طلب من الممرضين نقلي إلى غرفة الإنعاش.

تمدّدت على السرير… وأنا أحاول أن أفهم كيف استطعت العمل والوقوف كل تلك الأيام… وأنا في هذه الحالة!

تم نقل وحدتي دم لي حتى استقرت حالتي، ثم نُقلت إلى قسم التنويم ونُقلت وحدتان إضافيتان… وبدأتُ أشعر بتحسن.

وفي اليوم التالي جاء الطبيب وقال لي بنبرة مطمئنة:

— سنقوم بإجراء منظار للمعدة والقولون… فقط للاطمئنان.

قلت بهدوء:

— أنا لست قلقًا… افعلوا ما يلزم.

أُجريت منظار القولون… وبعد وقتٍ قصير عاد الطبيب، لكن هذه المرة كانت ملامحه مختلفة… يخفي قلقًا واضحًا.

جلس بجانبي وقال بصوتٍ منخفض:

— الحمد لله على سلامتك… ولكن… ولكن…

قلت له:

— ولكن ماذا؟

قال وهو يحاول اختيار كلماته:

— يؤسفني أن أخبرك أنك مصاب بسرطان القولون.

ساد الصمت… كأن الزمن توقف احترامًا للحظة.

قلت بهدوءٍ أقرب للرضا:

— سرطان القولون… الحمد لله.

قال الطبيب:

— الورم ممتد بطول 35 سم… ويجب إجراء عملية جراحية عاجلة لاستئصاله.

أغمضتُ عيني… ثم قلت:

— توكلت على الله.

أُدخلت غرفة العمليات… وتمت الجراحة بنجاحٍ بفضل الله.

لكن الطريق لم ينتهِ بعد، فقد كان عليّ الخضوع لست جلسات من العلاج الكيماوي… مرّت ثقيلة، لكنها مرّت.

وها أنا أمامك الآن… بعد خمسة عشر عامًا.

عُمْرٌ جديدٌ كُتب لي… صفحةٌ بيضاء فتحتها الحياة أمامي.

ولأول مرة… شعرت أنني مسؤول عن عمري مسؤولية مختلفة.

قررتُ أن أحافظ عليه.

أن لا ألوّثه.

أن أعيشه كما أراد الله… حياةً شاكرة، مطمئنة، مليئة بالعبادة والمحبة والرضا.

ثم نظر في عينيّ وقال بصوتٍ يشبه الوصية:

يا عزيزي… اغتنم عمرك.

اغتنم عمرك…

فليس كل إنسانٍ يُكتب له عمرٌ جديد… لكن كل إنسانٍ يستطيع أن يبدأ عمره من جديد.

كاتب وأخصائي تغذية- القطيف