آخر تحديث: 14 / 12 / 2025م - 11:08 م

الاحتيال… سلوك أم فطرة؟

أحمد منصور الخرمدي *

يشدّد الإسلام على من يعتدي على أموال الناس بالنصب والاحتيال بأيّ شكل من الأشكال، بأن له من العقاب الشديد، وهي من كبائر الذنوب ومن المحرمات القبيحة والأمور الشنيعة، وإنّ عقوبة أكل أموال الناس بالباطل في الدنيا عدمُ قبول الدعاء والعبادة، ومحقُ البركة في الرزق والمال والولد، والتعرّض لِغضب الله سبحانه وتعالى، وظهور الخسارة والهلاك، ويقتصّ الله من آكل أموال الناس بالنصب والاحتيال يوم القيامة وله عذابًا أليمًا، قال تعالى في منزل كتابه المجيد:

﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [النساء: الآية 29]

وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: الآية 30]

إننا نعيش اليوم، ولله الحمد، في زمنٍ أصبح فيه الوعي مدرسةً متاحة للجميع، إلا أنّ هناك ممارسات تُثير الدهشة والأسى في آن واحد، لأنها تهدم قيم الصدق والأمانة وتقتل الحقيقة بلا رحمة. ومن أبرز هذه الممارسات ما يقوم به بعض ضعاف النفوس — وهم قلّة بإذن الله — ممن يُقدِمون على اختلاق حوادث سير متعمّدة بهدف الحصول على المال بطرق غير مشروعة.

فبعضهم يتعمد افتعال حادث لسيارته مع مركبة شخص آخر، رغم أن مركبته في الأساس متضررة من حوادث قديمة لا علاقة لها بالحادث الجديد؛ كلّ ذلك فقط من أجل الحصول على تعويض من التأمين، أو من الطرف الآخر المجني عليه، وهذا العمل دون شكّ هو غشّ واحتيال محرّم دينيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا.

ومثل هذا السلوك ليس مجرد تصرّف خاطئ، بل هو جريمة تُعرّض صاحبها للمساءلة القانونية والعقوبات الرادعة التي قد تشمل الغرامات والسجن وسقوط حقه التأميني، كما لا يجوز شرعًا ولا قانونًا تحميل الطرف الآخر مسؤولية أضرار سابقة؛ لأنّ ذلك يُعدّ أكلًا لأموال الناس بالباطل. وإن الإقدام على مثل هذا الفعل المشين، بل التفاخر به أحيانًا، يعكس ضعفًا في النفس وانحدارًا في الأخلاق، وخللًا في الضمير والعقل، وهو سلوك يشبه في قبحه السرقة والخيانة والغدر، لأنه يقوم على الكذب والتزوير، وينتهك مبادئ الدين والقيم الإنسانية السليمة.

ولا يتوقف الضرر عند حدود الفاعل وحده، بل يمتد إلى المجتمع بأكمله؛ فهذه السلوكيات تغرس الشك وتضعف الثقة، وتشوه صورة من يمارسها أمام الآخرين، وتنعكس سلبًا على علاقاته، بل وتضعه في صراع داخلي يرافقه تأنيب للضمير وضغوطًا نفسية متراكمة. وقد يتأخر العقاب، ولكن وعد الله حق: ”إن الله يمهل ولا يهمل“.

إنّ ما نسمعه من قصص عن مثل هذه التجاوزات يشير إلى وجود خلل يحتاج إلى رصده ومواجهته بقوة؛ فاستمرار هذه الأفعال يؤدي إلى هدم القيم، وتشويه مبادئ النزاهة، وإلحاق الضرر بالآخرين من خلال سلب أموالهم بالكذب والتدليس. كما أن التهاون في مواجهتها يمنح ضعفاء النفوس فرصة أكبر لاختراع أساليب احتيال جديدة تهدد المجتمع والمال العام وتستنزف موارده.

ويبقى الاحتيال ظاهرة اجتماعية معقّدة، فبعض المختصين يرون أنه سلوك مكتسب ينشأ من البيئة وضعف الرقابة والرغبة في تحقيق مكاسب سريعة، بينما يرى آخرون أن بذوره قد تكون كامنة في النفس البشرية لكنها لا تتحول إلى فعل إلا إذا وُجدت الظروف التي تسمح بذلك. وفي كل الأحوال، يبقى الوازع الأخلاقي والرقابة الذاتية والمؤسساتية أهم الحواجز التي تمنع انتشار هذا السلوك.

كما نأمل من الشركات والجهات المعنية في معاينة حوادث السير الحضورَ وإعداد التقارير بدقة، وكذلك شركات التأمين التحري والتدقيق وبصرامة شديدة، حتى لا نترك مجالًا لضعفاء النفوس لِاستغلال الثغرات أو التلاعب أو أخذ أموال الناس بالباطل عن طريق الغش والاحتيال. فالتشدد في الرقابة وإجراءات التحقق لا يحمي فقط حقوق الجهات المعنية، بل يحفظ أيضًا العدالة ويمنع تضخم هذه الممارسات التي قد تؤثر على المجتمع بأكمله.

ومن هنا تأتي أهمية التوعية والتثقيف وتعزيز الرقابة، بالإضافة إلى تطبيق الأنظمة بحزم، لحماية الحقوق وصون الأمانة وردع كل من تُسوّل له نفسه العبث بحقوق الناس أو التعدي على ممتلكاتهم. فالمجتمع لا ينهض إلا بقِيَمِهِ، ولا يزدهر إلا بنزاهة أفراده.