الانعتاق من الخريطة الذهنية.. أساس الوعي الحقيقي
ناقش الأستاذ إبراهيم البليهي الخريطة الذهنية، معرفًا أن أفكار أي شخص وتصوراته تتضمنها خريطة ذهنية كوَّنها له دماغه، فهو محكوم بهذه الخريطة، ويعتقد أن أي فكر يخالف خريطته الذهنية هو فكرٌ ضال.
موضحًا أن الإنسان يكون واثقًا ثقة تلقائية مطلقة بأنماطه الذهنية، ويظل على وثوقه حتى يُصدم بشيءٍ يُنبّهه لحقيقة ما هو مستقر في ذهنه، فيبدأ في التساؤل. غير أن أغلبية الناس لا يتعمقون في هذا التساؤل، بل يوهمون أنفسهم للتلاؤم مع خرائطهم الذهنية، فيتعاملون مع التساؤل وفق ما يسميه علماء النفس التنافر المعرفي، فيتناسى الإنسان الإشكال ويعود منسجمًا مع خريطته الذهنية المستقرة، وكأن شيئًا لم يكن. ومع ذلك، ففي حالات نادرة، ينعتق بعض الأشخاص من خريطتهم الذهنية التي تكونت تلقائيًا، ويصنعون خريطتهم بأنفسهم. غير أن هذه الحالة شديدة الندرة، لأنها متعبة وتتطلب رغبةً ملحّة في التحقق، وشجاعة فكرية عالية لمراجعة الذات ومواجهة المألوف. عندما يعيش الإنسان في ظل التنافر المعرفي، الذي عرّفه عالم النفس ليون فيستنغر بأنه حالة من التوتر أو عدم الارتياح النفسي تنشأ عندما يحمل الفرد معتقدين أو فكرتين متعارضتين في الوقت نفسه، أو عندما يتصرف بطريقة لا تتوافق مع قناعاته أو قيمه، فإنه يبدأ بالتبرير لتخفيف هذا الصراع الداخلي.
وهذا التنافر لا يقتصر على المواقف النظرية، بل يظهر جليًا في حياتنا اليومية.
فمثلًا، المدخن يعلم أن في التدخين ضررًا، لكنه يدخن، ويوهم نفسه بأنه لا ضرر في التدخين، فيقول: هناك من يدخن وعاش إلى عمر التسعين سنة وهو يدخن.
ومثال آخر، الطالب الكسول يبرر لنفسه بأن الدراسة لا تجعل من الإنسان ذكيًا، فيقول: أنا ذكي بطبعي، والشهادة ليست معيارًا للذكاء. بهذه الطريقة يتعامل الإنسان مع التنافر، مفضّلًا راحة الانسجام الذاتي على مشقة المراجعة الفكرية.
غير أن من ينعتق عن خريطته الذهنية ويتبنى أفكارًا مخالفة لها، لم يصل إلى النتيجة التي وصل إليها إلا عبر محطات مرهقة من الصراع الداخلي، حتى تتفكك تلك المباني الدماغية التي تكونت مع الزمن. وما يزيد صعوبة هذه الرحلة أن الفرد يدخل بعدها في صراع آخر مع بيئته، وهي عقبة قد تجعله يتراجع لعدم تحمّله ضغط الرفض أو الاتهام. وللأسف، تكثر تلك الاتهامات من البعض، متناسين أن الأصل في الدعوة هو التفكر والتدبر.
حين ننظر إلى من استطاع أن يتحرر من خريطته الذهنية ويتبنى أفكارًا جديدة، ينبغي أن نحترم تلك الشخصيات التي وصلت إلى هذه المرحلة المتقدمة من الوعي، خصوصًا المفكرين المصلحين، وأن نناقش الأفكار التي يطرحونها في أجواء هادئة، مهيئين نفوسنا لتقبّل الأفكار المنطقية التي تُطرح.
فمثل هذا الحوار قد يساعدنا على تجاوز خرائطنا الذهنية المتجمدة، ويقودنا إلى فهم أعمق للذات والعالم.
إن التقبّل للأفكار الجديدة يحتاج إلى تهيئة نفسية بالحوار، لأن التحرر من الخريطة الذهنية هو الوعي الحقيقي، وهو مصداق التفكر والتدبر المعرفي والخلوص إلى نتيجة مرضية.













