القراءة والمهارات اللغوية
لا شك أن للغة أهمية كبرى في حياتنا اليومية، ليس من منظور التمجيد فيها من جانب تاريخي أو ديني أو أدبي فحسب، وليس لأنها ذاكرة الأمة وحافظة لتراثها فقط، وهي أمور مهمة بلا شك؛ ولكن من ناحية حياتية أيضًا.
فكل منا، أيًّا كان عمله أو دراسته، يقضي جزءًا من وقته في كتابة شيء ما، أو الحديث مع شخص أو جهة عن أمر ما، حيث تزداد أهمية اللغة المكتوبة أو حتى المحكية؛ إما في إيضاح فكرة أو في الدفاع عن أخرى. ولربما خسر أحدنا جولة أو صفقة أو معركة، أو حتى حربًا كاملة على أحد الصعد، بسبب سوء اختيار كلمة أو تعبير معين. واستنادًا إلى هذا فقراءة كتاب جيد تساعد في تحسين القواعد اللغوية، كما أن قراءة رواية جيدة مليئة بالحوارات تزيد من القدرة على إدارة حوار مع الآخر. وهي أيضًا تزيد من الدقة في اختيار الألفاظ بما تكسوها من أردية جميلة تلفت الأنظار إلى مستوى كاتبها الثقافي، ومن ثم تحسن القدرة على التأثير في الآخر وإنجاز ما يرغب فيه صاحبها. وكما أن ”الخط الجميل يزيد الحق وضوحًا“، كما يقال، فإن الكلمة الجميلة والمنمقة تفعل ذلك أيضًا، وقد قال الإمام الشافعي: مَنْ تَعَلَّمَ النَّحْوَ هِيبَ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ رَقَّ طَبْعُهُ.
فالقراءة المكثفة والمستمرة تزيد خزينة المفردات؛ نتيجة التعرض لعدد كبير منها، وهو ما يتيح التعبير أفضل عما في أعماق النفس بعبارات أفضل وأكثر دقة، إذ تصبح الكلمات أكثر انصبابًا على الورق وأجمل وأرق. كما أنها تمكن من فهم بعض حيل اللغة والمعاني المزدوجة لبعض الكلمات. فالقارئ النهم يفهم حينما يتحدث إليه شخص محنك أو سياسي متضلع في اللغة ويدرك ما بين السطور لا المعلن فقط، كما أنه يفهم حتى ما لم يقله الطرف الآخر من خبايا الكلمات أو ما تتوارى خلفه بعض التعابير. وهذا هو الفرق بين الشخص الحصيف الذي لا يمكن خداعه بالكلام المعسول، أو الكتابة الجميلة التي تستبطن غير ما تظهر، وغير الحصيف الذي تنطلي عليه كلمات مسمومة لكنها مغلفة بأجمل العبارات. هنا يفهم الحصيف مثلًا الفرق بين «ربحتُ الصفقة» بضم التاء و«ربحتَ الصفقة» بفتح التاء، ويفهم قول القاضي مثلًا حينما يقول لرجلٍ: ألست قاتلًا؟ فهل يجيبه بـ «نعم» أو بـ «بلى»؟ وما هو مدلول كل منهما؟ وهنا يتجلى القول العربي الشهير «تكلّموا تُعرفوا»، والذي لا يشبهه سوى مقولة سقراط لأحد تلامذته الصامتين: ”تكلم حتى أراك“.
”أعتقد أن القراءة نوع من التدريب على فنون قتال اللغة“. - الكاتب البرتغالي غونزالو تافريش













