آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

العمالة الوافدة ورحلة البحث عن البقاء

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

تأتي العمالة الوافدة في معظمها من دولٍ تتقلص فيها فرص العيش الكريم، وتتراجع فيها إمكانات الكسب المستقر، فتتجه نحو المملكة بحثًا عن حياة أفضل ودخل ثابت يمنحها القدرة على الصمود ويدعم عائلاتها في أوطانها.

غير أنّ الطريق أمام هؤلاء ليس مفروشًا بالورود كما قد يتخيّله أو يتصوره البعض، فالكثيرُ منهم يواجهون صعوبات العمل، ومرارة الغربة، وتحدّي الاندماج في مجتمعٍ جديدٍ لا يشبه ما اعتادوه؛ وهكذا تتحول رحلة البقاء إلى مزيجٍ من الضغوط النفسية والمعارك اليومية، كما تروي ذلك تجاربُ الكثيرين. ومع ذلك، وبالرغم من قسوة التجربة يواصل الكثيرون منهم التكيّف والمضيّ قدماً مدفوعين بحلمٍ صغيرٍ يكبر في صدورهم كلما ضاقت بهم السبل.

لكنّ ما يستدعي التأمل هنا ليس فقط ظروف العمل ولا السياسات أو القوانين المُنظمة لسوق العمل، فتلك مهام الجهات المختصة وصنّاع القرار، غير أن الظاهرة المتنامية والمتجددة تُشير إلى أن أعدادًا كبيرة من العمال ذوي الثقافات والعادات المتنوعة باتوا يخططون للبقاء لفترات عمل أطول، وربما بلا سقف زمني محدد داخل الأحياء السكنية وبخاصة في البيوتات القديمة التي تحولت إلى ما يشبه ”القرية الصغيرة“، ولم يعد وجودهم مؤقتًا كما كان في السابق؛ ليظل الباب مفتوحاً أمام أسئلة جوهرية لم تعد تحتمل التأجيل.

لماذا يتشبث السوق بالعمالة الوافدة؟ وكيف يمكن أن يصبح المواطن الاختيار المفضل؟ وهل اكتملت جاهزيته لتولي دوره كاملًا؟ وما هي التوصيات العملية التي يمكن أن تساهم في تمكين المواطن السعودي من العمل وتقلل من الاعتماد على العمالة الوافدة؟

وانطلاقاً من هذا المشهد الذي يزداد تعقيداً، يتوجّه هذا المقال باختصار إلى تفكيك الأسباب التي رسّخت بقاء العمالة الوافدة لمدى أطول مما كان متخيّلًا، ويوضح ما قد يحمله ذلك من تغييرات على خريطة السوق السعودي المحلي في المستقبل، والسعي لتقديم توصيات عملية تسهم في تمكين الشباب السعودي وتأهيله لسد الاحتياجات وتقليل الاعتماد على العمالة الوافدة.

لماذا يتشبث السوق بالعمالة الوافدة؟

الحقيقة التي ينبغي الإشارة إليها هي أن العمالة الوافدة في بلادنا لم تعد مجرد أرقام تُدرج في تقارير وزارة الموارد البشرية، ولا مجرد قوة عاملة تتنقّل بين مساكنها ومواقع العمل، بل غدت جزءًا من ملامح الحياة اليومية في العديد من الأحياء والقرى والمدن؛ فمن السباك الذي اعتدنا الاحتفاظ برقم هاتفه، إلى عامل الصيانة المقيم داخل الحي، مروراً بالمحال التجارية والخدمية… وانتهاءً بمساكن العمال المشتركة التي تنتشر في مناطق مختلفة… كل ذلك يُشير إلى حضورٍ متجذّر لا يمكن تجاهله.

ولعل من أبرز أسباب استمرار اعتماد السوق على هذه الفئة:

1- الاحتياج التاريخي والطفرة العمرانية

إن الاعتماد على العمالة الوافدة لم يكن خياراً عابراً، بل كان ضرورة فرضتها ظروف التوسع العمراني والصناعي؛ فبين عامي 1975 و 1995 م تضاعف حجم المشاريع الحكومية والبنية التحتية أكثر من ست مرّات بحسب تقديرات البنك الدولي وتقارير وزارة الاقتصاد. وفي تلك الفترة لم يكن هناك مخزونٌ بشري محلي مؤهل بالعدد والمهارة يلبي هذه القفزة، فكان الحل الأسرع هو: الاستقدام. ثم جاءت الكلفة المنخفضة للعامل الوافد لتعمق الاعتماد، فضلاً عن المرونة في ساعات العمل والجاهزية والاستعداد في اللحظة التي يحتاجه فيها صاحب العمل، بالإضافة إلى المهارة والمعرفة وغيرها.

2- انخفاض التكلفة مقارنة بالإنتاجية

لقد كانت تكلفة العامل الوافد لفترة طويلة أقل من تكلفة المواطن، خاصة في الأعمال الفنية واليدوية، ومع زيادة العرض من العمالة الخارجية أصبح العمل معتادًا على التكلفة المنخفضة ولا يوجد ضغوط لتغييرها.

3- نقص المهارات المتخصصة محلياً

رغم التطور الكبير في التعليم والمعاهد إلا أن البعض من المهن الفنية الدقيقة ما زالت تعتمد بدرجة عالية على الخبرات الأجنبية خصوصاً في قطاعات المقاولات والصيانة والخدمات وكانت لدي فيه تجربة كبيرة، وهذا راجع في تصوري إلى بطء تراكم الخبرة المحلية في بعض التخصصات، وضعف انتقال المعرفة من العامل الأجنبي إلى المواطن، إضافة إلى غياب المسارات التدريبية العميقة التي تمنح العامل السعودي فرصة الاحتكاك العملي الطويل والتدرّج المهني الحقيقي داخل مواقع العمل الفعلية.

فالمهارة لا تُكتسب من قاعات التدريب وحدها، ولا تُغرس في يومٍ أو شهر، بل تحتاج إلى سنوات من التجربة والانغماس في تفاصيل المهنة وأسرارها، وهذا ما سمح للوافد عبر عقود طويلة بأن يبني خبرة متينة جعلته الخيار الأسرع لصاحب العمل.

كيف يصبح المواطن الاختيار المفضل لصاحب العمل؟

لكي يصبح المواطن هو الخيار الأول لصاحب العمل هذا يعني أن نوفر لصاحب العمل الأمور التالية:

أولاً: المهارة

وتعني إتقان العمل والقدرة على حل المشكلات وامتلاك المعرفة والتعامل مع الأنظمة الحديثة، فالمواطن الماهر هو ذلك الشاب أو الشابة الذي يدخل موقع العمل وهو يعرف ما المطلوب منه فلا يضيّع وقت صاحب العمل في التجريب العشوائي، أو بالتجربة والخطأ، بل يختصر عليه الطريق بالعمل المتقن، وهنا يصبح مفضلًا على العامل الوافد الذي يحتاج إلى الوقت الطويل للتكيف مع اللغة والأنظمة وثقافة المجتمع.

ثانياً: الجدية

وهي ليست أن يذهب المواطن السعودي إلى العمل فحسب، بل أن يحمل معه الشعور والإحساس بالمسؤولية وأن يصل في الوقت المحدد، وأن يحترم ساعات العمل ونظامه، وألا يتعامل مع الوظيفة كعبء ثقيل، بل كفرصة لبناء مستقبله وخدمة وطنه. كما أن الجدية تعني ألا يكثر الغياب بلا عذر ولا يتهاون في المواعيد ولا يترك عمله دون إكمال أو يسوّف المهام؛ الجدية تعني سلوكًا وثقافة عمل متقن ينعكس على جودة المخرجات واستقرار المنشأة.

ثالثاً: التكلفة العادلة

عندما نقول التكلفة العادلة لا يعني ”الأجر المنخفض“ وإنما يعني التوازن العادل بين ما يتقاضاه العامل وما يقدمه من إنتاجية، وقيمة مضافة للمؤسسة. فصاحب المؤسسة المنصف لا يبحث دائمًا عن الموظف الأرخص، بل عن الأكثر كفاءة مقابل تكلفة معقولة؛ فإن استطاع المواطن السعودي أن يرفع من إنتاجيته، ويقلل من الأخطاء والهدر، وأن يعمل بكفاءة، فإن تكلفته الفعلية ستصبح مقبولة، بل ومغرية لصاحب العمل حتى لو كان راتبه أعلى قليلاً من العامل الوافد.

هل المواطن جاهز لتولي دوره الكامل؟

عند النظر بتجرّد إلى واقع السوق اليوم، يمكن القول إن المواطن السعودي قد قطع شوطاً كبيراً نحو امتلاك عناصر الجاهزية، لكن هذه الجاهزية لا تزال ”مشروعًا في طور الاكتمال“ أكثر من كونها حالة نهائية. فالسنوات الأخيرة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حضور السعوديين داخل القطاع الخاص، إذ قفز عددهم إلى ما يزيد على 2.4 مليون موظفٍ في عام 2024 م بعد أن كان أقل من 1.7 مليون قبل خمس سنوات فقط، وهو ما يعكس رغبة قوية لدى الشباب السعودي في دخول السوق والاعتماد على الذات، كما انخفض معدل البطالة إلى نحو 7% في عام 2024 بعدما كان يتجاوز 12% قبل سنوات قليلة، وهي مؤشرات لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن جاهزية المواطن وقدرته على المنافسة.

خطوات عملية لتمكين المواطن

لم تكن قضية العمالة الوافدة في يومٍ من الأيام مجرد ملف اقتصادي أو إجراء تنظيمي فحسب، بل أصبحت جزءًا من المشهد الاجتماعي والاقتصادي الذي نعيشه يومياً، حيث تداخل حضورها مع تفاصيل الحياة، ومن هنا تأتي الحاجة إلى التوصيات العملية لتكون مدخلًا مساعداً في تمكين المواطن في المكان الذي يليق به.

ومن أهم تلك التوصيات:

• تعزيز التدريب المهني وبناء المهارات المتخصصة.

• غرس ثقافة الجدية والانضباط الوظيفي منذ مراحل التعليم المبكرة.

• تحسين بيئة العمل وجعلها عادلة ومحفزة وجاذبة للكفاءات الوطنية.

• إعادة هيكلة بعض المهن لتصبح أكثر قيمة وجاذبية للسعوديين.

الخاتمة - المواطن… رهان السوق ومستقبله

وفي خضم هذا المشهد المتشابك ومع تغيّر احتياجات السوق وتدفق الأيدي العاملة من كل حدبٍ وصوب، يبرز المواطن السعودي اليوم بصورة مختلفة تمامًا عما كانت عليه البدايات. فقد دخل السوق بخطى قد تبدو متثاقلة في أول الأمر، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى إيقاع واثق، تدعمه الأرقام قبل الكلمات، فقد أثبتت السنوات الأخيرة أن الشباب السعودي قادر على صناعة الفارق متى ما أُتيحت له الفرصة العادلة؛ فهو لا ينقصه الذكاء ولا العزيمة، ولا القدرة على التعلّم السريع، فكلما اشتدت المنافسة وارتفع سقف الطموح ازداد إصراره على أن يكون جزءًا أصيلاً من بناء وطنه، لا مجرد رقم في كشف الرواتب.

إن المواطن السعودي اليوم ليس ”بديلًا“ عن العامل الوافد فحسب، بل هو مصدر القوة، والقيمة الوطنية المضافة، والخيارُ الاستراتيجي الطويل الأمد، والرهانُ الذي أثبت بالفعل أنه قادر على حمل المسؤولية.

ولذلك أعتقد جازماً أنه ما دامت الإرادة موجودة، والتأهيل مستمر، والدعم قائم، فإن المواطن سيصبح ليس فقط الخيار الأول لصاحب العمل، بل الركن الرئيسي للسوق وقلبه الذي يستمد منه الطاقة والاستدامة.