آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

منكسر من الداخل!!

ياسر بوصالح

تتداعى في خاطري معانٍ شتى كلما مررت ببيتٍ لأمير المؤمنين :

ما إن تأوَّهتَ في شيءٍ رُزِئتَ بهِ
كما تأوَّهتَ للأيتام في الصِّغَرِ

قد ماتَ والدُهم من كانَ يكفُلُهم
في النائباتِ وفي الأسفارِ والحَضَرِ

ولعل السؤال الأبرز هنا.. لماذا اختار الإمام لفظة»تأوَّه «دون غيرها من ألفاظ الحزن أو الألم؟ إن التأوّه ليس مجرد انفعال داخلي، بل هو أنين يخرج من أعماق النفس، يعبّر عن أقصى درجات الأسى، ويكشف عن عمق التفاعل مع المأساة الإنسانية.

فهل كان مصدر ألم الإمام فقد الكفالة المادية وحدها؟ أم أن التأوّه يعبّر عن فقدٍ يتجاوز المادة إلى البعد العاطفي والروحي؟ صحيح أن المجتمع قد يتكفّل بالجانب المعيشي، لكن من يعوّض الطفل عن حنان الأب ودفء العاطفة؟ فالفقد لا يقتصر على المال أو الكفالة، بل قد يتجلى في صور أخرى أشد قسوة، حين يُحرم الطفل من حضن والديه في سن مبكرة، وهو أحوج ما يكون إليهما. عندها يعيش نوعًا آخر من اليُتم؛ لا يُحسب على اليتامى، ولا يُدرج ضمن الأطفال المستقرين عاطفيًا. إنه يُتم عاطفي مستتر، قد يكون أشد وقعًا من اليُتم المادي الظاهر.

وبربك أيها القارئ العزيز، أيهما أقسى في هذا الزمان.. اليُتم المادي بفقد المعيل، أم اليُتم العاطفي بفقد الحنان رغم وجود الأبوين؟ وإذا نجا الطفل من آثار الطلاق حين يُتخذ كورقة ضغط في محاكم الأسرة، فكيف ينجو من آثار الضغينة حين يجعله والداه ساحة لتصفية حساباتهما النفسية؟

إن التأوّه في بيت الإمام ليس مجرد أنين على فقد الكفالة، بل هو صرخة إنسانية تتجاوز حدود الزمان، لتذكّرنا بأن الطفل هو معيار الرحمة، وأن فقده للسند العاطفي لا يقل قسوة عن فقده للمعيل المادي.

وقد تذكرت ذات مرة حين شاهدت مقابلة للإعلامي القدير نجم عبدالكريم في برنامج وينك [1] ، حيث استعاد مشهد انفصال والديه، وكيف كانت والدته تودّعه بدموعها قائلة بلهجتها العراقية الرقيقة:

يا نجم.. يا نجم.. للضيم رايح محتزم.

فقلت في نفسي.. يا الله! إعلامي قدير ومخضرم، بل ظاهرة إعلامية قلّ نظيرها؛ يكفيه دوره الأبرز في البرنامج الشهير من سيربح المليون، ويكفيه أنه مُصاحِب لكبار الشخصيات في الخليج وخارجه، ويكفيه كتابه شخصيات عرفتها وحاورتها باختصار، رجل بلغ أوج النجاحات، ومع ذلك، وهو في الثمانين من عمره، لم يغب عن مخيلته مشهد الطلاق، ولم يفارق ذاكرته ذلك الألم المبكر.

وأختم مقالتي قائلا.. إن فاتني أن أضيف في مقالي بأي ذنب كسرت؟ [2]  صورة الطفل اليتيم عاطفيًا كأحد المنكسرين قلوبهم، بل ربما أشدهم، فلن يفوتني أن أدق ناقوس الحذر، كل الحذر، لمجتمعاتنا من طفل منكسر في أعماقه، يختزن جراحًا لا يراها أحد، لكنها قد تحدد ملامح مستقبله بأسره ولا أحد يعلم هل سيكون ناقمًا على المجتمع أم مصلحًا له؟.