آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:21 ص

احذر عدوك مرة وصديقك ألف مرة

سلمان العنكي

الصداقة عهد ووفاء وأمانة ليس بمقدور الكل الالتزام بحقوقها، وإعطاء النصف فيها، وحفظ ما ائتُمن عليه منها حتى وهي قائمة، فضلًا عما بعدها.. فاختر لنفسك مَن يتسم بالإيمان والمروءة والعقل تغنم؛ يستر عيوبك، ويكتم أسرارك، ولا يخدعك. وإن بَعُدَ عنك اختيارًا أو أُبعد قهرًا، أو كرهت صحبته؛ لا يظلم، ولا يجور، ولا يتعرض لك بما اطّلع عليه منك؛ يبقى مكتومًا عنده، لن يبوح به، ولا يفشي معايبك؛ يرى التحدث عنها يعيبه؛ لأنها كانت مشتركة بينك وبينه أزمانًا؛ يحمل ضميرًا يعرف الأصول، وازعه الدينيُّ يؤنبه.. ومن جانب آخر يشيد بحسناتك من أقوال وأفعال، ولا يرضى أن تُذكر بسوء. ولا يعني هذا أن يكون المختار خاليًا من العيوب، كامل الأوصاف، لا نقص فيه، مثاليًّا؛ لو قلنا بهذا لاحتجنا إلى البحث عن «معصوم» ولا يتأتى لنا ذلك، بل يعجزنا، وحينها ننعزل ونعيش منفردين، ولكن يجب التحري عن الشخص المُطَمْئِن.

ينقل لي أحد الإخوان ما يلي: «أنه اتخذ صديقًا قرّبه إليه، فأصبح خليلًا لا يخفي عليه شيئًا، ينادمه كل ليلة، يتعشّيان، يتسامران، يتبادلان الآراء والأحاديث، يهاتفه نهارًا، يعلم بكل صغيرة وكبيرة، وخافية وظاهرة عنه، وما كان اليوم ويكون في غدٍ. ما أسرعَ ما حصل سوء فهم بينهما؛ ابتعدا عن بعضهما، وتمرد الصديق على صديقه. «ويتابع قائلًا بحسرة»: بالأمس كان يشيد بمواقفه، يلهج بها؛ أين كان؟ كلها في عينه نبيلة. واليوم حمّله سيئات غيره وما يشينه؛ سلبه محاسنه؛ يقول فيه ما لم يصدر منه أو سُمع عنه - انتهى».

حسبما نقله هذا المتكلم المتألم من صديقه سابقًا، الجائر بسفه حاليًا، نقول:

أولًا: من المنظور الشرعي تحريم الغيبة «وهي ذكر المرء بما يكره»، وإن لم تكن فهي بهتانٌ عظيم، وكلاهما من الكبائر التي يُؤثَم مرتكبها، وقد تعرض هذا لما يغضب الله تعالى، لهتكه حرمة عبد من عباده؛ فتضرر هو من موقفه أكثر من الآخر، علم أو لم يعلم؛ لو كان صادقًا كان عليه نصحه، والتكلم معه عنها، لا عليه بها. وأما سكوته فهو رضا بما يفعل، وتستّرٌ عليها، وتشجيعٌ له، وبتصرفه المقيت ترك واجبًا، وضيّع حقًّا لصديقه، وارتكب محرَّمًا، وأساء لنفسه.

ثانيًا: كشف المتعدي لمجتمعه والعامة أنه فاقدُ الثقة، يُخاف من صحبته، وتُخشى عواقبها متى وقع اختلاف معه؛ فيحذرونه حتى لا يُلدغوا ويصابوا كصاحبه المذكور. وإن ظنه يصحب من لا يخطئ، وممن أُنزلت فيه آية التطهير على أهل الكساء ؛ فما نحن إلا وفينَا الجاهل والغافل والخطّاء، وما أنت المنزه دونهم. يُنسب للشافعي أنه قال:

لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلُّك عورات وللناس ألسن

وعيناك إن أبدتا إليك معايبًا
فدعها وقل يا عين للناس أعين

وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسن

ثالثًا: علينا أن نتحلى بالإيمان والمصداقية وحسن التعامل في الرضا ووقت الغضب، نبتعد عن الفجور في الخصومة: «معاشرة بمعروف أو مفارقة بإحسان»؛ لنكنْ من حملة الضمائر المفلحين.

وختامًا كما بدأنا، احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة؛ فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة.

للتوضيح: «أ» ما عنونا به متداول في التراث، ورُوي أنه من كلام «أمير المؤمنين الإمام علي »، وهذا يكفي وثوقًا.. والله أعلم. «ب» جاءت المبالغة بالتحذير من الصديق أكثر من العدو في قولنا: «احذر عدوك مرة وصديقك ألف مرة»؛ لأن عدوك مكشوف أمامك، بينما قد يخفي الصديق نوايا سيئة مستغِلًّا ثقتك، فإذا انقلب كان أكثر ضررًا لمعرفته بأسرارك وما في بيتك وما حواه جيبك. خيانة المقربين أشدُّ تدميرًا من غيرها.