آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:21 ص

الطاولة التي انقلبت: حكاية التوازن الهش

عبير ناصر السماعيل *

جلسوا جميعًا في أماكنهم على الطاولة المستديرة المصقولة.

الشيطان متكئًا بشيء من اللا مبالاة، الملاك بإشراقة خفيفة لا تضغط على أحد، النفس تتحرك بقلق خفيف لكنه مألوف، تسعى لتوفيق كل الأطراف لضمان استقرار الهوية، الروح ساكنة كأنها تعرف الطريق، العقل يرتّب أوراقه كمن وُلد ليمسك الإيقاع وسلامة الأعضاء، التفكير يعقد حاجبيه، يقلّب المسألة في صمتٍ عميق، القلب ينبض بإيقاع هادئ لكنه واضح، هو نبع الإحساس الصادق، والضمير يجلس بيقظة هادئة، يراقب الموازين دون إصدار حكم.

لا أحد يتعدّى على أحد. لا أحد يريد أن يعلو. وكأن بينهم اتفاقًا قديمًا: لا يجرؤ أحدٌ على المساس بسلام الدائرة.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان.

اهتزّ الضوء، ارتجف مرة… ثم انطفأ دفعة واحدة، كأن الليل سقط على المشهد بأكمله دون سابق إنذار. وفي تلك الومضة التي لا يتجاوز عمرها نبضة، تبدّل كل شيء.

وحين عاد الضوء، لم تعد الدائرة موجودة. اختفت تمامًا… وفي مكانها امتدّ مستطيل طويل، حادّ الحواف، واضح الجهة، له رأس واحد… ومركز واحد… ومقعد واحد يُغري الجميع بالاقتراب منه.

ومع ظهور الشكل الجديد، اندفع كل طرف نحو ”رأس الطاولة“.

الشيطان تقدّم بثقة جامحة، الملاك شدّ وقاره، العقل جرّ كرسيه بقوة، التفكير اندفع بهدوء متعمّد، النفس ارتجفت وهي تتقدّم، تظن أن شدّة صوتها كافية، الروح خطت خطوة هادئة، القلب تزداد نبضاته اضطرابًا، الضمير يتقدم بخطوات متشككة.

ولم يعد أحد يفكّر في سلام الدائرة. لم يعد أحد يترك مساحة لغيره. سقط الصلح… وبدأت المعركة.

المقعد الغائب

كنتُ أنظر إلى نفسي في المرآة، وفي تلك اللمحة العابرة شعرتُ بأن شيئًا ما ناقص. ناقصة بطريقة لا تُرى، ولا تُفسَّر بالملامح أو التعب، بل بطريقة تُحسّس بهشاشة الداخل، كأن انعكاسي هو نفسه ساحة الصراع الجديدة. كأن جزءًا من ذاتي لم يصل معي… كأن مقعدًا داخليًا خالٍ ولا أعرف من الذي غادره.

وفي تلك الثواني القليلة، انكشفت هشاشة الترتيب الذي كنت أظنه ثابتًا. كان ذلك الإحساس بالنقص نابعًا من أن المعركة على كرسي القيادة التي سقط فيها الصلح، قد خرجت فجأة إلى وعيي.

أنا دائمًا أقول إنني متصالحة مع نفسي، لكن في هذه الفترة بدأت نفسي تتمرّد عليّ. لم أقل يومًا إننا نتفق، لكننا — رغم اختلافنا — كنّا متصالحات مع بعض، بتناقضاتنا كلّها: خير وشر، عقل وجنون. غير أن هذا التصالح يبدو أن الأيام بدأت تزلزله. وهنا خرج السؤال الذي لم أهرب منه: هل نحن فعلًا متصالحون مع ذواتنا، أم هل أوهمنا أنفسنا به؟

ما الذي يجعل الطاولة تتغير؟

العوامل التي تغيّر شكل الطاولة تفوق حدّ ظنّنا، فهي كثيرة. قد يكفي شيء في غاية الصغر ليهزّ كامل التوازن الداخلي. هذا ليس ضعفًا، بل دليل على أن الإنسان كائن في نموّ مستمر؛ يتحوّل مع التجارب ويتشكّل مع كل ما يمرّ به.

وأخطر ما في هذه العوامل هو الإحساس بأننا لا نملك السيطرة عليها، فتبدأ النفس بالتمرد، ويُبالغ العقل في الحماية، وتتراجع الروح... وكل طرف يريد حينها رأس الطاولة ليضمن بقاءه.

هذا الصراع، أو مخاض التغيير، هو ما رأته الفلسفة الوجودية ثمنًا لحرية الاختيار. ولطالما رأى كارل يونج أن هذا التفكك هو ضرورة للوصول إلى التفرد Individuation, حيث لا يمكن للذات أن تنمو إلا عبر هذا الجسر المضطرب.

نيتشه يلخص الأمر: ”عليك أن تحمل في داخلك فوضى لتتمكن من ولادة نجم راقص.“

أولًا: عوامل نابعة منّا نحن

أشياء نظنّها بسيطة… لكنها تغيّر توزيع المقاعد داخلنا:

• التعلّم: كل معرفة جديدة تحرّك مقعدًا وتهزّ مقعدًا آخر.

• تغيّر الثقافة الشخصية: قناعات جديدة، رؤى مختلفة، ووعي يكبر.

• العلاقات بجميع أشكالها: كل علاقة تُعيد ترتيب الداخل وتثير صراع القيادة.

ثانيًا: عوامل تأتي من الخارج

قادرة على إفساد الصلح الداخلي دون استئذان:

• تجربة قاسية أو صدمة: تعيد تشكيل ردود الفعل والنظر إلى الذات.

• تغيّرات اقتصادية أو مجتمعية: تغير طريقة الشعور بالأمان، وتضغط على النفس والقلب.

وما ذكرناه هنا هو مجرّد أمثلة، فما لا يُحصى من العوامل يساهم في هذا التغير.

هذه العوامل جميعها تعمل على زعزعة الكيان، وصراع الأطراف الثمانية.

فهل المعرفة كافية لتهدئة المعركة… أم أقصى ما تفعله هو تخفيف أثرها؟

ماذا نفعل حين تتغيّر الطاولة؟

هل نبحث عن شكلها القديم؟ أم نتوقف قليلًا لنفهم لماذا تغيّر الشكل أصلاً؟ هل نحاول إعادة كل جزء إلى مقعده الأول؟ أم نسأل: هل ما زالت تلك المقاعد تناسب من صِرنا؟

وحين ينقلب السكون إلى فوضى، هل المطلوب أن نطفئ الضوضاء... أم أن الإنصات إليها قد يكشف شيئًا لا نعرفه عن أنفسنا؟

في علم النفس، يُنظر إلى هذه الفوضى ك ”أزمة تحوّل“، لا مرض يجب علاجه، بل إشارة صريحة للذات تطالب بإعادة التقييم. يرى علماء النفس التحليلي أن مهمتنا ليست إخماد الصوت الصارخ للأطراف الثمانية، بل الإنصات إلى رسالة هذا الصراخ. حينما يتخلى العقل عن دوره كحارس وحسب، ويصبح مُتيقظاً، وحينما تقرر النفس تقبل النقص بدلاً من الاندفاع نحو القيادة الموهومة، يبدأ الكيان في صياغة مفهوم جديد للسلام. عندها قد يكون الحل لا يكمن في استعادة الماضي، بل في ”تلقّي الذات“ كما هي في لحظة التمزق، وهو ما يمثل نقطة انطلاق جديدة للقوة.

قد يكون الإنصات إلى الفوضى هو الطريق لتبني ترتيب جديد قد لا يشبه ما كنا نعتاده، ترتيب يُحتمل أن يقود فيه نور الروح على غفلة النفس، ترتيب أقرب إلى الحقيقة.

وربما يكون الصراع ليس إيذانًا بالنهاية، بل هو دعوة علنية لـ ”رأس الطاولة“ الحقيقي: الوعي الذاتي، الذي يوجه الأطراف المتنازعة نحو التناغم، ليس بالصلح الزائف، بل بـ القبول الواعي لتبدّل المقاعد.

خاتمة الخاتمة

وعندما أعود لأنظر في المرآة بعد كل هذا، وحين يهدأ ضجيج الأطراف الثمانية قليلاً... يبقى السؤال الحقيقي، الذي لا يخص كرسي القيادة ولا شكل الطاولة، بل يخص جوهري الثابت في هذا الوجود المتغير:

"في أي لحظة من هذا التحوّل المستمر...

كنّا على حقيقتنا؟ أم كنّا ننتظر فقط أن نكون؟"

كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة