آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

التجديد الديني وغياب أدوات البحث المعاصر

حسين زين الدين *

تطوّرت العلوم الإنسانية عبر تاريخٍ طويل من التراكم المعرفي، إذ أسهم كلّ عالم في إضافة خبراته ومعارفه إلى ما سبقه، فامتدّ هذا التطور ليشمل النظريات ومناهج البحث وأساليب التحليل. وقد مكّن ذلك الباحثين من الوصول إلى نتائج أكثر دقّة، وفتح آفاق معرفية جديدة تتواكب مع تطلعات الإنسان وأسئلته المتجددة. وأسفرت هذه الإسهامات المتلاحقة عن تأسيس قاعدة صلبة للنهوض بالفكر الإنساني.

وعند التأمل في طبيعة هذا التطور، ندرك أن كثيرًا من العلوم خضعت للتحقيق العلمي القائم على التثبت من صحة دعاواها، ومراجعة مسلّماتها، وتدقيق حقائقها، بعيدًا عن مكانة أصحابها، فحققت تقدّمًا ملحوظًا. وعلى العكس من ذلك، لم تُبدِ العلوم الدينية القدر نفسه من التجاوب مع هذا التطور، سواء في مناهجها أو أدواتها أو وسائل استنباطها.

ومن هنا يبرز السؤال الذي يشغل المهتمين بالتجديد الديني: لماذا امتنعت العلوم الدينية عن تبنّي المنهج العلمي الحديث؟ ولماذا بقيت بعيدة عن أدوات البحث المعاصر؟ وهل لهذا الامتناع مبرّر موضوعي بالفعل؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، لا بد من العودة إلى الفرضيات التي تقوم عليها العلوم الإنسانية؛ إذ يرى الباحثون أن المنهج العلمي الحديث يقوم على فكّ الارتباط بين الرأي وصاحبه، وإسقاط هالة القداسة عن الأفكار، وإخضاعها لمعايير موضوعية دقيقة. وهذا المبدأ يضع تحديًا جوهريًا أمام العلوم الدينية، خاصةً أن جزءًا كبيرًا من بنيتها النظرية يستند إلى الإيمان بقداسة بعض الشخصيات الدينية التي تُشكّل معيارًا لقبول الرأي أو رفضه، مما يجعل فصل الفكرة عن صاحبها أمرًا بالغ الصعوبة.

وفي تقديري، تفسّر هذه الفرضية جانبًا مهمًا من أزمة المجتمع المتديّن، التي تتمثّل في الخلط بين جوهر الدين وتصورات الإنسان عنه. فعندما تنتقل القداسة من النصّ إلى الفهم البشري المحدود، يصبح هذا الفهم—مهما كان ناقصًا—جزءًا من المقدّس. وبدلًا من العودة إلى النصوص الدينية برؤية متجددة، تُفرض على الواقع تصوّرات ضيقة باعتبارها الدين ذاته.

وقد أسهم هذا الخلط في إضفاء قداسة على ممارسات بشرية لا تعدو كونها نتاجًا لأفهام قدّمها علماء ومفكرون ضمن سياقات ثقافية واجتماعية محددة. ومن المعلوم أن التفسيرات الدينية تتأثر بطبيعتها بالبيئة التي ينتمي إليها الإنسان، بما تحمله من أفكار وعلاقات وأنماط حياة، مما ينعكس على فهم النصوص وتأويلها.

ومن الطبيعي أن يدافع البعض عن العلوم الدينية بصورتها الراهنة، وأن يشكّك آخرون في جدوى بعض العلوم الإنسانية، لكن من غير الطبيعي تجاهل ما حققته العلوم الحديثة من تطور منهجي، كما لا يصح الادعاء بأنها بلغت الكمال. فالدعوة الحقيقية تتمثل في الإفادة من أدوات العلوم الإنسانية في قراءة النصوص الدينية بموضوعية وعمق، بما يحدّ من مساحة التأويلات الخاطئة.

لقد أصبح من الضروري التمييز بين الدين كنص ثابت، وبين الدين كما تتناوله الأفهام البشرية في مختلف الأزمنة والأمكنة؛ فالأول لا يتغير، أما الثاني فمتغيّر بطبيعته، وما يختلط به من رؤى واجتهادات بشرية لا يكتسب بالضرورة صفة القداسة.