المبارك.. عازف الضوء
فنجان من الفن، هكذا وصف الشاعر عبدالله الصيخان المصور الشاب علي عبدالله المبارك قبل أكثر من أربعين سنة، وهو يتأمل صوره التي ينشرها في الصفحة الأخيرة من جريدة اليوم، هو شيء ينتظره كل صباح ليرتشف منه الأشياء اليومية في تشكلها الجمالي ساعة يخطف منها ومضة من ضوء، الشاعر الذي تسلل مبكرا إلى مغامرات القصيدة الحديثة، وجد نفسه مذهولا أمام تجربة فوتوغرافية سخية في وصف حياتنا اليومية، واستعادة لحظاتها الشاردة.
الكثيرون يعرفون المبارك اليوم من أعماله التجارية وتصويره الاحترافي للمواقع والمشاريع الوطنية، باعتبارها المحطة الأخيرة في مشوار مصور أخذه التعلق بالصورة لجعلها باب الحياة، وباب الفن، وباب التواصل مع الناس.. المصور الذي عبر من عالم أرامكو ذات يوم وتدرب وعمل فيها، كان قد عبر في أول الطريق من عالم الصحافة، وجريدة اليوم التي طاف لأجلها بأفلام التصوير، يصور الأطفال، والأحياء، والشوارع، والسواحل، وكل ما ينبض بالحياة.
إرشيف الصحيفة إياها يمنحك السيرة المفقودة لهذا المصور البارز، سيرة مصور الشارع والحياة اليومية، يمد عينيه في الفضاءات المحيطة به، ويبسط الضوء في كل الاتجاهات لكي نرى ما تراه عيني مبدع، كثير الاستغراق في التأمل بتجليات الضوء، وأشكال الظلال، وما تناثر من تعابير إنسانية في حياة الناس. بين رغبة الإخبار ورغبة التحليق في أفق الإبداع تتراوح تجربة مصور صحفي كان معنيا بصناعة حكاية من كل صورة، أن يجعل من الومضة الخاطفة سببا لوقوف القارئ الطويل عند تفاصيلها.
عندما تعثرت بصوره الوفيرة، ورغم غياب تفاصيلها الدقيقة في عمل المسح الضوئي بالإرشيف، وجدتني أسأل نفسي: أين هذا الإرشيف الغني اليوم؟ لماذا غادر المبارك هذه المنطقة من التصوير ولم يعد إليها لاحقا؟ هل يمكن أن يكون المبارك محرضا لتجارب أخرى لاحقة تشاغلت بمنادمة اليومي والحياتي فوتوغرافيا؟ ماذا عن تجربة الراحل صالح العزاز الذي كان حاضرا ككاتب ومسؤول في تحرير الصحيفة في ذات الفترة؟
للصحف أغراضها التوثيقية والإخبارية التي تحرضها على تصوير الكثير من الأشياء، وهذا ما يفسر طبيعة الصور التي تجمعها وتقدمها، لكن الذهاب بالصورة إلى حدها الجمالي، واتخاذ مواعيد مختلفة مع يوميات الحياة، هو إشارة على مغامرة إبداعية، ودراية بموسيقى التفاصيل الصغيرة، وإعلان صريح برغبة جعل الصورة عنوانا للدهشة.. والمبارك الذي استحال اليوم معلما وملهما لأجيال كثر من المصورين كان كمن يختبر أدواته وأفكاره، ويكتشف الإشارات البكر لموهبته في عالم التصوير.
يأخذنا الطمع اليوم أن نرى تلك التجربة ثانية، أن نتعرف على النسخة الأولى من المصور المبارك، أن نتعلم أول دروس الشغف، وأول دروس الانزلاق في تفاصيل حياة الناس، نجمع خيوط الوقت الذي مر، ونعيد بسط مشاعرنا على أطرافه، حيث الصورة توقظ ما نام من تلك الذكريات، وترمم ما تساقط منها، وتضعنا على غصن صغير كان له ظل جميل في دروب الحياة.
وبس.













