كفانا قسوة باسم الفضيلة
يُروى أن نبي الله عيسى
مرّ هو والحواريون على جيفة كلب،
فقال أحدهم: ما أنتن ريح هذا!
وقال آخر: ما أشد سواد شعره!
وقال ثالث: ما أفظع منظره!
فقال عيسى
:
”ولكن انظروا ما أشد بياض أسنانه.“ [1]
يا الله... يا لجمال هذه القصة.
المتكلّم هو روح الله عيسى
،
والمستمعون هم صفوة تلاميذه،
والمتكلم عنه كلب - كُرّم قدر القارئ - والذي يُعدّ نجسًا في حياته، بل يُقال عنه ”إنه أنجس شيء حين يغتسل“، فكيف وهو جيفة نتنة؟
ومع ذلك، فإن روح الله عيسى
لا يُهينه، ولا يُلغيه، بل يُنصفه، ويثني على بياض أسنانه.
هذه القصة - وإن انشغل بعض علماء الجرح والتعديل في سندها أو صحة صدورها - لا تخرج عن روح المنهج القرآني، كما في قوله تعالى ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [2]
بل حريٌّ بشبابنا اليوم أن يوظفوا أدوات الذكاء الصناعي في تصوير هذه القصة للعالم أجمع، بمختلف اللغات، لإيصال صورة عن سماحة ديننا وإنسانيته، بعيدًا عن التشويه والتشدد.
وهنا أدخل إلى صلب الموضوع: منهج التفكيك الذي استلهمته من روح هذه القصة في تقييم الآخرين لا نطالبهم بصورة مثالية مطلقة، ولا نحاكمهم إلى كمال لا يطيقه بشر، بل نُشيد بما ظهر من محاسنهم، ونتلمّس لهم المعذرية فيما بدر من تقصير، ثم نُوكل أمرهم إلى بارئهم، فهو الأعلم بسرائرهم، والأعدل في حسابهم.
• السيد الحميري، من الشعراء الأفذاذ، يُنقل عنه أنه لم يترك فضيلة لأمير المؤمنين
وأهل البيت إلا وكتب فيها شعرًا، بل كان يتحدى الناس أن يأتوا بفضيلة لم ينظم فيها بيتًا. وقد جمع له أحدهم أكثر من ألفي قصيدة في مدحهم. هذا هو جانبه المشرق وأما الجانب الآخر من شخصيته، فهو ما يُنقل عنه من كثرة شربه للخمر [3] ، قبل توبته وهدايته.
• محمد مهدي الجواهري، شاعر العراق المعاصر، اعترف في مذكراته بإدمانه لهذه الموبقة، ومع ذلك، كتب قصيدة خالدة في الإمام الحسين
، نُقشت أبياتها بالذهب على مدخل الرواق الحسيني الطاهر، وتُعد من أعظم القصائد الرثائية في العصر الحديث، وكأن الحسين
استخرج من أعماقه ما لم تستخرجه الحياة، فكتب لا بوصفه شاعرًا، بل بوصفه إنسانًا انكشفت له الحقيقة لحظةً، فأنطقته.
- وهناك أمثلة أخرى من شعراء مشهورين مدحوا آل البيت
، أعرضت عن ذكر أسمائهم، فالمقصود هو الفكرة لا الاستقصاء.
بل أكثر من ذلك، ينقل وزير الإعلام الكويتي السابق، المرحوم الأستاذ محمد السنعوسي، في برنامج الصندوق الأسود، أن فيلم الرسالة - الذي ساهم في تقديم الإسلام بلغة سينمائية يفهمها الغرب، بعيدًا عن الصور النمطية السلبية - كان كاتبه لا يستطيع الكتابة إلا وبجانبه أفضل القوارير المعتّقة.
علينا أن ننصف الآخرين، لأن «الإنصاف شيمة الأشراف» [4] ، كما يقول أمير المؤمنين
.
وأن نُطبّق منهج التفكيك في نظرتنا للناس، بحيث لا نجعل من أنفسنا وكلاء الله في أرضه [5] - كما أشرت في مقالي السابق - بل نُشيد بالإيجابي من الفعل، ونلتمس المعذرية عن كل تقصير، ونوكل أمرهم إلى بارئهم.
فذلك أقرب للتقوى، وأصدق للإنصاف، وأجمل في عين الإنسانية.
لذلك، ليكن التفكيك منهجكم في نظرتكم للآخرين - برحمة والديكم - وكفانا قسوة باسم الفضيلة.













