آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

الخريف: ميثاق الوعي الأول وصلاة السرمد

نازك الخنيزي


حين يركع الأثير لحكمة الغيم،
يتفجر الخريف كوعي محض على تخوم الأرض،
ويُسن ميثاقه بدمعة الأزل،
مدادها يغسل الكينونة على جلود الأوراق،
ويختمه شعاع الحدس باسم الاحتجاب.

في مناخه تتلبد غصة الحنين،
وفي مضاجع التربة يتكور أريج سرمدي
يخلع على الزمان هيئته القدسية الأولى.

من انحناءات الفطرة تتدلى همسات أوركسترالية،
تتساقط ورقة –
هي تكوين ضوء،
وشهيق انقضاء
يعود إلى مغرسه الأم ليستهل سردية الإدراك.

الكيانات الشجرية تنصت في ذروة تجرد،
تنحل من أغشية ذاتها،
تودع طيفها المظلل في ذاكرة العابرين،
وللسماء ما تبقى من صدى غضاضتها،
تشيع سر مادتها لمحنة العدم.

وفي الفاصل بين احتراق العنصر وولادته،
يبتسم النور للغبار وهو يصير ترابًا خصبًا،
لينبلج فيض إشراقي.
ومن غبار الخلق تتكون نواة الإدراك،
كأن الوعي آخر ما يزهر من رماد الفناء.

الحقول تتآخى على متن سرها الكامن،
تستغرق السنابل في وجدان لون بلغ كماله،
والريح تمر كنفَس مبارك،
تقدس ما استوفى معناه،
تمسح برفق أسارير الكينونة وتنتهي.

الأثير رطب كالذاكرة،
يطهر وجه الوهن،
ويغمر الشرفات برذاذ الميثاق المطري،
فتشتعل في محراب القلب روضة من سنا أولي.

يا فصل التجلي والاستبصار،
يا تهجد الأرض حين تتصامت لتنكشف،
يا مفترق الوجود بين الزوال والخلود،
من أطلالك تستنهض الأصول سباتها،
ومن رباطة جأشك يتخلق المطلع الربيعي.

الخريف لا ينطفئ،
هو استراحة الكون
حين يغمض جفنيه
ليبحر في حلم الأوبة الخضراء،
وببصر يتبصر من جوف عتمته
أن الإشراق – في بوصلة الأفول –
هو البعد السري للفجر.

وفي سكينة البدء،
حين يعيد الأزل تسبيحه في مرايا الزمان،
يبتهج الخريف كطفل استعاد ذاكرة النور،
وينحني الكون،
لا سجودًا للغيب،
بل امتنانًا لنور أدرك أنه
هو ذاته المبتدأ والمنتهى.