آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 3:54 م

الشيخ عبدالحميد آل عباس صوت يبدأ من الطفولة ولا ينطفئ حتى الرحيل

سامي آل مرزوق *

حين ترحل بعض الشخصيات، يرحل معها صوت كان جزءًا من وجدان الناس، وتنسحب معها ملامح زمن صنعته القيم والرفق واليقين. ومع رحيل سماحة الشيخ عبد الحميد آل عباس، شعرت سيهات بأنها فقدت رجلًا لا يُعوض، ليس لأنه كان خطيبًا بليغًا فحسب، بل لأنه كان روحًا هادئة تمشي بين الناس بصدق قلما يجود به الزمن.

طفولة تنمو بصوت… وصوت يكبر بروح عالم

ولد سماحة الشيخ بسيهات عام 1382 ه، وكان منذ صغره يلفت الأنظار بذلك الصوت الواضح المطمئنّ الذي يسبق عمره. لم يكن ذلك مجرد موهبة، كان نواة رجل سيحمل لاحقًا رسالة المنبر والكلمة. ومع بلوغ عام 1400 هـ سافر إلى طهران ليلتحق بحوزة القائم العلمية، وهناك نضجت شخصيته العلمية الأولى، قبل أن ينتقل إلى سوريا مواصلًا درب التحصيل الديني بصبر ومعرفة ورؤية.

عودته تحمل العلم… واتساع في الأفق

عاد الشيخ إلى الوطن عام 1411 ه، لكنه لم يعد كما ذهب؛ عاد متعدد الروافد، يجمع بين الدراسة الحوزوية في القطيف والدراسة الأكاديمية في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وصولًا إلى درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي من الجامعة الإسلامية العالمية عام 1429 ه، فكان العلم بالنسبة إليه مسؤولية، والمنبر أمانة، والناس رسالة لا تُهمل.

رجل منبر… يملأ المكان حضورًا وهيبة

تصدّر الشيخ المنبر بصدق والعلم وخشوع القلب، إمامًا لجماعة جامع أم البنين بسيهات، وقبلها في مسجد القاسم بن الحسن، وفي مختلف مدن المنطقة، كان صوته يسبق حضوره، ينشر الوعي، ويمنح للمناسبة الدينية حياة جديدة لا تتكرر.

وفي رمضان كانت الليالي معه تأخذ نورًا خاصًا. في حسينية الإمام المنتظر ”شاخور“ كانت ليلة القدر بصوته حالة روحية خاصة، دعاء يفتح أبواب السكينة، وتلاوة تشبه ملامح الملائكة.

على مقاعد الدراسة… رفقة لا تنساها القلوب

شاء الله أن تجمعنا الدراسة في جدة، تلك المرحلة ربطتنا بذكريات لا تُشترى. كنتُ أول طالب منتظم من سيهات في الجامعة، وكان الشيخ يدرس بنظام الانتساب، والتقينا، وتشاركنا أيامًا لا تُنسى مع رأفت منيان، مكي خليفة، محمد شهاب، شاكر مزعل، محمد مطر، محمد تركي، المرحوم محمد هزاع، هاني بقّال، هاني شويخات، محمد اليوسف، محمد الجوكم، إبراهيم عباس، عيسى الباشا، هشام النصر، كميل عبد رب النبي، مازن البيات، حبيب المشامع، وغيرهم.

كان ضيفًا خفيفًا على غرفتي بسكن الجامعة، وصديقًا حاضرًا في شقة العزيز مكي خليفة وباقي طلاب سيهات بالسكن، ورفيقًا يملأ الجلسة لطفًا وحياء، حتى ”باسكن روبنز“ كان شاهدًا على ضحكاتنا البسيطة التي صنعت ذكريات كبيرة.

الحج: الطريق الطويل الذي كشف معدنه

في رحلتنا الأولى مع حملة شهاب، وكان معي أبي أطال الله عمره إلى الحج، ظهر معدن الشيخ الحقيقي؛ صبره، أدبه، خلقه، روحه التي تفيض خشوعًا، كانت الرحلة رابطة لا تُنسى، وحكاية نرويها كلما مر ذكره.

رجل المجتمع… أثر لا يُمحى

لم يكن الشيخ حبيس المنبر، كان ابن المجتمع الأثبت؛ ساهم في تأسيس مهرجان الزواج الجماعي بسيهات، دعم مشروع كافل اليتيم في جمعية سيهات للخدمات الاجتماعية، ساند لجنة أنوار القرآن، وأعان كل مبادرة خيرة تخدم المجتمع والناس، وكان آخرها إنشاء مسجد أم البنين في حي قرطبة، صدقة جارية تبقى شاهدًا عليه ما بقيت الأرض.

الوداع… حين يرحل الصوت ويبقى صداه

مع مرور الأيام، تباعدت الدروب، لكن صلتنا لم تنقطع. كان دائمًا قريبًا، وكلماته تسبق صوته، وعندما بلغ نبأ رحيله، بدا وكأن جزءًا من ذاكرة سيهات قد انطفأ، ولكن أثره لم ينطفئ.

رحل سماحة الشيخ عبد الحميد، لكن سيرته بقيت أغنى من الفقد، وأوسع من الغياب، كان رجلًا جمع بين العلم والخلق، والمنبر والإنسانية، وترك في القلب أثرًا لا يمحى.

وداعًا يا أبا محمد..

رحم الله الشيخ عبد الحميد آل عباس، وجعل نور علمه وطيبة قلبه وصدق نيته شافعًا له، وأسكنه جنات تتسع لقدر ما أعطى، وقدر ما أحبه الناس، وقدر ما زرع في هذه الأرض من خير.

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم