الذين غابوا عن المجتمع فغاب المجتمع عنهم
في زمن السرعة والتكنولوجيا، أصبح الإنسان أكثر انشغالًا من أي وقت مضى، وكأن الإيقاع المتسارع ابتلع وقته ومشاعره وعلاقاته. قد يختفي الشخص من المجتمع فجأة، ويغيب عن كل ما يدور حوله، والعذر الجاهز دائمًا: الانشغال.
لا تجده في المسرّات ولا في الأحزان ولا في المناسبات، ولا تراه يكتب أو يشارك أو يبكي أو يحزن… وكأن حياته الخاصة أصبحت عالمًا مغلقًا لا يدخله أحد.
يغيب عن زيارة صديق أو قريب، ويعيش في كوكب الانفرادية، حتى إن اسمه يختفي من ذاكرة المجتمع ويصبح من الماضي، وكل ذلك تحت مظلة ”الانشغال“ الحقيقي أو ”الانشغال“ الموهوم. لقد أصبحت هذه الكلمة أسهل جواب يُلقى في وجه من يقدّم لك عتاب المحبة ويسألك: أين أنت؟ أين تعيش؟
وأين الناس؟
وهنا يبرز السؤال: هل أصبح الجوال الذي بين الأيدي، أو التلفاز ذو آلاف القنوات الرقمية، أو الحاسوب والانشغال الدائم بشاشاته… هو سبب اختفاء الناس من المجتمع؟
هل الموظف الذي يعمل تسع ساعات يوميًا ويعود إلى منزله منهكًا هو حقًا غير قادر على الظهور لسنوات في المسجد أو المناسبات والأفراح والأحزان؟
أم أن ظروف الحياة التي كثرت في السنوات الأخيرة باتت هي المبرر الأكبر لهذا الغياب؟
هل تُعدّ ظروف الحياة اليومية عذرًا مقبولًا لعدم الذهاب إلى المسجد حتى في يوم الجمعة، أو لعدم وصل صلة الرحم، أو لترك تقديم واجب العزاء، أو دعم صديق في مسرّته؟
الغريب أن هذا التقصير يتلاشى حين يجلس الشخص الساعات في مجلس مع أصدقائه، أو يخرج في رحلة قصيرة، أو يستمتع بوقت ترفيهي… بينما يضيق وقته فجأة عندما يتعلق الأمر بالواجبات.
الكثير من الأمور تغيّرت في هذا الزمن، والسبب في جوهره تغيّر تفكير الإنسان نفسه. أمّا التكنولوجيا والسرعة، فهي أدوات يمكن أن تُستخدم للخير كما تُستخدم للشر، وللتطوير كما للتراجع، لزيادة الوعي كما للجهل.
إنَّ بعثرة الوقت لدى الإنسان نحو أمور جانبية قد تكون أحد أهم أسباب هذا التقصير، يضاف إليها إهماله للواجبات.
وفي المقابل نرى الكثير ممن ينظمون أوقاتهم بعناية، حريصين على مشاركة المجتمع أفراحه وهمومه. وتراهم متطوعين في الجمعيات الخيرية، مشاركين في العمل الخيري في المساجد، باحثين عن الخير للناس ولمجتمعهم؛ لأنهم يشعرون أن هذا واجب عليهم. ينتابهم الحزن إن لم يكونوا جزءًا من حل مشكلة معينة، وتضيق صدورهم إن غابوا عن مشاركة أحزان أو أفراح معارفهم… لأنهم يرون أنفسهم جزءًا من المكوّن المجتمعي، وبأنهم لا ينفصلون عن الأشخاص الذين يعيشون حولهم.
يا ترى، ما الذي سيترتب من أثرٍ سلبي على هذا الإنسان الذي نسي أسرته وأصدقاءه ومجتمعه، وظلّ حبيس كلمة مشغول؟
بالتأكيد، كما نسي مجتمعه... سينساه الناس. وسيجد نفسه غريبًا عن الأحزان التي يمر بها الآخرون فلا يفتقده أحد، ولن يُوجَب عليه حين تكون لديه المسرّات، وسيبقى وحيدًا يفرح وحده
وإذا ضاقت به السبل، فسيطول ضيقه؛ لأنه لم يكن يومًا عونًا لأحد، ولم يقدّم لمجتمعه ما يجعله حاضرًا في قلوب الناس. نعم، لا تزال الدنيا بخير، ولا يزال فيها الأخيار من أهل الوفاء والمواقف، لكن هل يضمن هذا الإنسان أن يبقى هؤلاء الأخيار من حوله؟
الله أعلم.
فلنُعِد النظر في علاقتنا بالمجتمع قبل أن نصحو على فراغٍ صنعناه بأيدينا، فالمشاركة ليست تفضّلًا؛ بل جوهر إنسانيتنا، ومنح الوقت للناس لا يقل عن تقديم العون لهم، فمن يحفظ الودَّ يُحفظ، ومن يصل غيره تُفتح له ألف وصلة.













