آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

بخير رغم كل شيء

ياسين آل خليل

في مرحلةٍ ما من حياة الإنسان، وبعد جولاتٍ طويلة من السعي واللهاث، يكتشف معظمنا أن الأشياء البراقة في الحياة ليست إلا سرابًا عاطفيًا يخبو مع مرور الوقت. السيارة الجديدة التي أبهجتنا بالأمس، والترقية التي بدت كأنها ستغيّر مسارنا، وحتى قصة الحب التي خفق لها القلب، جميعها تتقاسم المصير ذاته.. زوال البريق وعودة الفراغ الهادئ. نحن نطارد السرور كما يطارد الطفل فراشةً لا يريد لها أن تموت، دون أن ننتبه أن الجمال الحقيقي هو في تلك اللحظة العابرة ذاتها، لا في امتلاكها.

أصبحنا هذه الأيام عبيدا لإيقاعٍ لا يرحم، صارت قيمتنا تُقاس بما نملكه في جيوبنا، لا بما تحويه ذواتنا. تصحو الأجهزة قبل أصحابها، وتُسابق الشاشات نبض القلب في تحديد أولويات يومنا. نعمل بجهدٍ جهيد لشراء أشياء لا نحتاجها، لإرضاء أشخاص لا يعرفوننا، ثم نتساءل في صمتٍ مؤلم.. لماذا لا نشعر بالرضا..!

في خضم هذا الزخم المادي، يلوح التأمل الداخلي كنافذة صغيرة على عالمٍ أكثر صفاء. ليس التأمل هنا طقسًا روحانيًا فحسب، بل عودة إلى الذات الأولى التي أرهقها الضجيج. أن تجلس في صمتٍ، وتسمع أفكارك دون أن تُحاكمها، وتراقب مشاعرك كما لو كانت غيومًا تمرّ في سماءٍ ساكنة، ذلك هو الفعل البسيط الذي يعيد ترتيب فوضانا الداخلية. في عمق هذا الصمت، تتجلى الحقيقة.. أن السعادة لا تُؤخذ من العالم، بل نستخرجها نحن من أعماق قلوبنا.

ليس الوعي الذاتي انسحابًا من العالم، بل عودةٌ هي أكثر عمقًا إليه. نظرة هادئة لكنها تمنح الأشياء حجمها الحقيقي. فالخسارة تجربة تُهذّب الروح، والنجاح محطة لا يُقيم فيها العاقل طويلًا. هو فنّ المراقبة دون حكم، والقبول دون استسلام. ومع كل لحظة إدراك صادق، تمتد جذور السعادة فينا بعمقٍ جديد، كمن يكتشف أن ما كان يبحث عنه بعيدًا، كان ينبت داخله بصمتٍ لكن دون أن يشعر.

قد يظن البعض أن هذا النوع من السلام الداخلي ضربٌ من المثالية التي لا يقدر عليها إلا القلّة. لكن الحقيقة أن هذا الوعي يمكن ممارسته في أبسط تفاصيل يومنا.. في طريقة إصغائنا لمن نحب، في نظرتنا لخطأ ارتكبناه، أو في قبولنا ليومٍ لم يكن كما أردناه. فالسعادة ليست نتيجة حدثٍ مُبهج، بل عادةُ تفكيرٍ جديدة نتبناها تجاه كل ما يحدث.

ومن المفارقات أن التكنولوجيا، التي وعدتنا بتسهيل حياتنا، زادتنا تشتيتًا. مواقع التواصل التي تُظهر حياة الآخرين كقصص نجاح متواصلة، جعلت المقارنة مرضًا مستمرًا يلازمنا كل حين. نغفل أن خلف كل صورة مثالية حكاية مجهولة من التعب أو الانكسار. لكن ما هو أعمق من ذلك، أن أدمغتنا لا تعمل دائمًا لمصلحتنا. الكثير مما نعدّه ”اختيارًا“ ليس سوى نتاج عملياتٍ ذهنية خفية. نظن أننا نتحكم في أفكارنا، بينما في الحقيقة، عقولنا في الغالب هي التي تقود المشهد من وراء الستار.

السعادة، في جوهرها، ليست لحظةً من البهجة العابرة، بل حالة من التصالح. التصالح مع ما حدث، ومع ما لم يحدث. مع نواقصنا، ومع اختلاف وجهات نظرنا للكثير من المواقف. وضع كل هذه الأمور في الاعتبار يجعلنا ندرك أن الطمأنينة لا تأتي من الخارج، بل من تلك المساحة الهادئة داخلنا، والتي لا تصلها صراعات السوق التي تعج بكل ما هو جديد. عندها فقط تتجلى حقيقة الحكاية.. أن تكون بخير رغم كل شيء..!