آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

نسختك من دينك تعبر عنها عبر تعاملك مع الناس

المهندس أمير الصالح *

في نشرات الأخبار والبرامج الإخبارية والتحليلية نسمع عن مصطلحات تتعلق بتصنيف الناس على أسس مرجعيتهم الدينية، فيقال شخص: مسلم، مسيحي كاثوليكي، مسيحي بروتستانتي، هندوسي، بوذي، ملحد، لا ديني… إلخ. وزادت في الآونة الأخيرة وتيرة تصنيف الناس في النشرات الإخبارية في بعض القنوات التلفزيونية الفضائية الدولية، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط الساخنة، طبقًا للنسخة الدينية الشعبية السائدة بممارسات وطقوس الناس في البلدان، فيقول المحاور أو المعلق الإخباري: نسخة الإسلام التركي، نسخة الإسلام المصري، نسخة الإسلام المغاربي، نسخة الإسلام الخليجي، نسخة الإسلام العراقي، نسخة الإسلام اللبناني، نسخة الإسلام الأوروبي، نسخة الإسلام الأفريقي / الأمريكي / اللاتيني، نسخة الإسلام الإندونيسي، نسخة الإسلام الهندي، نسخة الإسلام الباكستاني، نسخة الإسلام الآسيوي… إلخ.

وفي أحيان كثيرة يوصف الإنسان المواطن داخل الطيف الاجتماعي الوطني طبقًا لانتمائه المذهبي، حتى لو تملص أو تنكر أو تمرد من شرنقة انتمائه المذهبي، فإنه يتم التصنيف له طبقًا لانتماء أبناء منطقته وجذوره بالوراثة المذهبية، فيقال له: مسلم سني أو مسلم شيعي أو مسلم إباضي.

وإذا استغرقنا في الاستماع لما يتداوله بعض أهل الصحافة ومحرري الأخبار وبعض التغريدات الرقمية عند إطلاق بعض التشنيعات أو الشحن الإعلامي ضد البعض من الناس بناء على تبعات أحداث وحوادث معينة، فإنهم يصفون شخصًا ما طبقًا لمرجعيته الروحية بأنه صوفي مقزز أو شافعي متلون أو مالكي مبتدع أو جعفري قبوري… إلخ.

فتتساءل عن مصدر السلطة التي أعطيت للصحفي في إصدار الأحكام ضد الآخرين، وما الحماية القانونية المكفولة لمن وصفهم بعض الصحفيين بتشنيعات وتحريض وكراهية وتعميم وإلصاق تهم. وهل النعوت الافترائية التي يطلقها البعض ضد الآخرين ستتوقف عند حد ما، أم أنها تتسافل يومًا بعد يوم لتهييج أناس ضد أناس آخرين بقصد حصد مكاسب معينة وتفتيت مجتمعات مختلفة «فرق تسد»؟ وتتساءل: هل الفضاء الرقمي أصبح ملوثًا بنسبة عالية من الكراهية، وأضحى العالم الرقمي غير قابل للإصلاح والمعالجة لأنه تقمص لباس وشعار حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الاجتهاد أمام النص؟! الإشكال أن بعض الشباب، هداهم الله، يتفننون في إصدار نسختهم من الدين حسب الاستذواق الشخصي، وليس العلم الشرعي.

قناعات الإنسان

لكل إنسان منا آراء وأفكار وميول وانحيازات تفضيلية وفهم وقراءة معينة للنصوص بشكل عام، والدينية بشكل خاص، والسرديات التاريخية المؤثرة في حياة الناس، وتفسير أسباب بعض الظواهر السلوكية الاجتماعية، وطرق الربط للأحداث، وتداخلات الفتاوى الفقهية في حياة بعض الأفراد، وتعدد البيئات الاجتماعية، وتفاوت المستوى الاقتصادي، وطرق التنشئة، وتجارب إنسانية في بيئات عمل وأسر مختلفة.

فأساليب التفكر عند البشر متعددة ومتنوعة، فهناك: تفكير نقدي، وتفكير تحليلي، وتفكير استنباطي، وتفكير فلسفي، وتفكير استقرائي، وتفكير إبداعي، وتفكير استراتيجي، وتفكير مرن… إلخ.

ومع وجود مصادر رقمية ومنصات مختلفة للحروب العقدية والفكرية، وتنوع في حروب التسويق الأيديولوجي، سينتج عن ذلك متأثرون ومؤثرون في إسقاط قناعات وإطلاق قناعات مضادة للسائد، ولا سيما في مواضيع زواج القاصرات، وفتاوى الإرضاع، وتقسيم الإرث بين الإخوة والأخوات، وإدارة الأوقاف الشرعية، وأنواع السلطة، وحدود ولاية رجل الدين، والحدود المالية للخلع البذلي، وتفسير بعض الآيات القرآنية المتصلة بالأحكام المدنية. وهكذا استقطابات متنافرة أوجدت أو ستوجد مشهدًا مبعثرًا في مراحل زمنية متفاوتة عند الوقوف في تفاصيل التفاصيل.

إذا اتفقنا بأن الجميع لا يحق له الاجتهاد أمام النص القرآني، فإن الحوار ينتقل إلى الفروع والمباني المختلف عليها، وليس إلى الأصول وأمهات العقائد. ولأن الأغلب يتمثل بقول: «ليس لأحد ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة - باستثناء من نص القرآن الكريم عليهم - بكل الأمور، ولا لأحد حق إقصاء وجود الآخرين لمجرد الاختلاف في الرأي، أو تكفيره، أو الكيد له، أو الافتراء عليه. بل الأوجب مقارعة الدليل بالدليل، والحجة بالحجة، وليس بقوة النفوذ أو أشياء أخرى أو الكيد». فعندئذ ننطلق لسماء إيجاد مداخل الحلول الممكنة والمتاحة.

قد يفكر البعض بصوت مرتفع: ما السبيل لتجاوز هكذا أطياف متنوعة من الاختلافات داخل البيت الإسلامي الكبير، أو داخل البيت الفقهي الواحد، في ظل رداءة كفاءة أدوات التواصل، وفي ظل موجات التشاحن والتراشق الطائفي والقومي والمناطقي المغذاة من قنوات عابرة للقارات، ومنصات رقمية مختلفة؟

ولتفادي التناحر والغمز واللمز الذي أهدر الطاقات وخنق النمو في عقول الشباب والفتيات من كل الأطياف، يؤمن العقلاء بالحوار الراقي والهادئ والهادف.

آداب الحوار

نعم، اختلف بعض السابقين بين مجسد لوجود الله، وبين محرم للتجسيد لله بالمعنى المادي البشري، بناء على فهم ظواهر آيات قرآنية معينة. ونعم، اختلف بعض السابقين في حدود بعض الأحكام، ونعم، اختلف السابقون في كيفية الوضوء: أهو مسح الرأس والقدمين، أم غسل الرأس والقدمين؟ ونعم، اختلف السابقون بين أهلية النص الموصى به أو اعتماد الشورى في إدارة الأمور العامة. واختلف البعض بين ولادة المنقذ الموعود للبشرية وبين عدم ولادته حتى الساعة، واختلف البعض بين التمسك بروح النص وتقديم المصالح… إلخ.

ولكن الجميع مجمع ومؤمن بوجود إله واحد، ونبي مرسل بالحق محمد ﷺ، وكتاب مجيد منزه ومحفوظ «القرآن الكريم»، ووقوع يوم الحساب بعد الموت والفناء… إلخ. وهذه نقاط التقاء مشتركة تجعل محضر خير.

الآن قد يقول أحدهم: هل قول القائل في التشهد: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» مبرئ لذمة المصلي، أم قول آخر: «اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» هو المبرئ للذمة؟! أو هل قول «سبحان الله» ثلاث مرات عند السجود هو المجزئ، أو قول «سبحان ربي الأعلى وبحمده»؟ هل يصبح أمر كهذا سببًا لقطيعة شبه دائمة؟

شخصيًا، أرى أن كل الأذكار التي تسبح الله وتنزهه مقبولة بإذن الله.

وينتقل حوار النقاش من الأقوال إلى بعض الأفعال؛ فقد يشنع صاحب فكر على صاحب فكر آخر عملًا أو سلوكًا يراه الثاني مستندًا إلى قراءة صحيحة لنص قرآني، ويراه الآخر أنه يعارض نصًا آخر. هنا يتحول النقاش إلى حوار أهل الحجة بالحجة، مع الإقرار التام بين كل الأطراف بأن النص القرآني مقدم على النص الروائي.

تأصيل وتجذير آداب الحوار بين أفراد المجتمعات الإنسانية وداخل المجتمع الواحد يجعل الأغلب الأعم متعايشًا بطريقة تكاملية ومندمجًا بطريقة تصالحية. ومع تعدد مصادر المعرفة، سواء السماعية أو الرقمية أو الانجذابية، يشعر الأغلب بأن داخل معظم البيوت تفاوتًا بين الإخوة في القناعات والفهم والبناء الفكري. وطالما أن الاختلافات اختلافات علمية رصينة في جزئيات ذوقية أو تصنيفية ليست من أصول التوحيد، ولا إنكارًا لأصل من أصول الدين، فليكن الجميع أذكى من فخاخ الشيطان وحبائله وفتنه ومناحره، وليكونوا أكثر انفتاحًا فيما بينهم وعلى المحيط الإنساني لكسب المودة وإحراز الاحترام وتفويت الفرص على المتربصين.

التعايش السلمي

المجتمع الذي يعيش أفراده بسلام، وفي ظل قانون عادل ومنصف ونزيه، ويحمي حق الفرد بغض النظر عن قناعاته الإيمانية والعقدية، فإنه سينمو ويتطور ويزدهر ويصنع ويزرع ويبتكر ويستمتع ويتفاءل. في أي مجتمع هناك متدين محافظ، ومتدين شعبي، وغير متدين إطلاقًا، ومتدين مناكف أو وسواسي، ومجادل، ومستفز، ومتحرر حد المجاهرة، وذو لسان سليط حد فقدان اللباقة في الحوار، ولكن بالمحصلة هم أبناء مجتمع واحد. وعلى الجميع توسيع الدوائر المشتركة ليظفروا بهدوء ونمو وسعادة وقوة.

الأمن والأمان الاجتماعي والوطني أمانة في عنق كل عضو من أعضاء المجتمع ومواطن على أرض الوطن.

الوصاية على المجتمع لأهل الجدارة والكفاءة العلمية

يشعر الإنسان بين الحين والآخر بنشوب حرب كلامية تتضمن تشنيعًا وتسقيطًا بين تيارات مختلفة داخل بعض المجتمعات. وعند التفتيش في ثنايا تلك الأحداث ووضع النقاط على بعض الحروف بشكل سليم وتراكمي، يتبين جزء أو كل المشهد. والمؤسف أن جزءًا ليس باليسير من الحروب الكلامية في التسقيط، وإن تلحّف بعضها بلحاف العقلنة أو التدين أو البحث لكشف الحقائق أو الحوكمة الاجتماعية، إلا أنه يتضمن تسلقًا للبعض، وليس كشف حقائق بنية بيضاء طاهرة.

فضلًا عن أن معظم التصريحات بين التيارات المتخاصمة لا تخلو من بهارات موضوعة في بعض الأحداث، وأن بعض الأرقام للمزايدة وإلصاق بعض الأفعال لتمرير سردية تحرض المستمع ضد هذا أو ذاك.

القدوات الحسنة

عندما نرى ونسمع عن تزايد عدد المشردين «homeless» من مواطني وحملة جنسية بلاد متطورة، فإننا نوقن بأن إحراز السعادة والأمان ليس مرهونًا بمكان ولادة الإنسان أو مسمى جنسيته، بل تكمن سعادته في طريقة تفكيره وسعيه الدؤوب نحو إنجاز حياة كريمة، وفلترة ما يسمعه ويتفاعل معه. وكذلك موضوع العيش السلمي الكريم داخل أي مجتمع أو أكبر يبدأ بقبول مبادئ الحوار النافع والهادف وحسن التفاهم.

وجود قدوات حسنة في حياة الإنسان كالنبي محمد، والسيدة الزهراء، وأئمة آل بيت النبي محمد ﷺ، نبراس وقدوة يهتدى بهم في شؤون الحكمة والحوار وتأصيل التفاهم والابتعاد عن الرذائل والشتائم والفجور في الخصومة.

المؤشرات الأساسية لنجاح أي مشروع حوار هادف

1 - النية الصادقة والصدق؛ فكم من نقاش وحوار يختبئ خلفه صراع على النفوذ والاستحواذ أو المال أو القيادة أو الزعامة أو الوجاهة المقنعة.

2 - الأمانة العلمية والموضوعية عند النقاش والحوار.

3 - الأمان وعدم الاستقواء على أي طرف بأي لون من ألوان القوة.

4 - العدالة في توزيع الأدوار.

5 - تكافؤ الفرص عند الحديث والحوار، وإعطاء الفرص للتعبير وتحمل المسؤولية والانخراط في بناء المجتمع.

6 - الالتزام بمخرجات الحوار من تفاهمات أو ترتيبات أو تعهدات.

7 - التيه سيكون مصير كل مجتمع متشرذم وفاقد خاصية الحوار التفاهمي، ونرجو من الله ألّا يكون بيننا أو حولنا تيه.