آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

بصمة على الورق

بدرية حمدان

نحن حين نكتب لا نفعل ذلك ترفًا ولا بحثًا عن حبر يملأ البياض، نحن نكتب لأن في داخلنا ما يحتاج أن يُقال، ما يلحّ علينا كي نخرجه من صمته، لأن هناك مشاعر لا تُحتمل إن بقيت حبيسة، وأفكارًا تختنق إن لم تجد طريقًا لها خارجنا.

نكتب من تجاربنا التي علمتنا، ومن أوجاعنا التي شكلتنا، ومن لحظات مضيئة تركت أثرها في أرواحنا، لحظاتٍ رسمت في داخلنا طريقًا مختلفًا، وجعلتنا نرى العالم بعيونٍ أخرى، أعمق وأصدق وأكثر وعيًا بما يمسّ القلب.

وما نكتبه ليس مجرد كلمات تُرص على الورق، بل امتداد لذواتنا، جزءٌ من وعينا، وشيء لا يمكن لأحد أن يستنسخه، لأنه نابع من شعور لم يمر به سوانا، ومن نظرة تخصّنا وحدنا، ومن تجربةٍ لم يعش تفاصيلها أحد إلا نحن.

فأفكارنا ملكنا وحدنا، وإن وضعناها في قوالب وصغناها في هيئة حروف وكلمات، فإنها تظل انعكاسًا خالصًا لتجاربنا وحدنا، نصوص قد تُقرأ، لكنها لا تُنسخ لأن جذورها مغروسة في داخلنا، لأن ما يأتي من القلب لا يعاد إنتاجه، بل يُلامس من يقرؤه فقط.

فالكلمات ليست مجرد أوعية لأفكارٍ خالصة بل هي تحمل وجداننا، وتحمل ارتجافاتنا الخفية، وتمنحنا القدرة على البقاء في عالمٍ مزدحم، عالمٍ قد يبتلعنا إن لم ندافع عن ذواتنا بالحروف. فكل نص نتركه يشبه بابًا مفتوحًا على جزء من أرواحنا، شاهدًا على ما كنا عليه، وعلى ما حاولنا، وعلى ما خفناه وما تمنيناه، شاهدًا على لحظة صدق حين يعجز الصوت عن الوصول.

الكتابة ليست فعلًا لحظيًا، بل رحلة تمتد بين قلبٍ يختلج وفكرة تبحث عن مخرج، مساحة نكون فيها صادقين بلا خوف، بلا تزييف، أقوياء رغم هشاشتنا، لأن الكتابة تعرّينا لكنها في الوقت ذاته تمنحنا قوة لا نملكها في العلن.

نكتب لنرى أنفسنا بوضوح، ولأن الحروف تمنحنا القدرة على منح المعنى شكلًا، والوجع اسمًا، والفرح وطنًا صغيرًا كلما ضاقت بنا الحياة، لأن الكتابة تعيد ترتيب الفوضى داخلنا وتعيد إلينا القدرة على التنفس.

وفي النهاية، تبقى الكتابة أعظم أشكال النجاة، نجاة من الصمت، ومن التشتت، ومن الزحام الداخلي، ومن العالم حين يقسو. نكتب لكي لا نفقد ذواتنا، ولكي تبقى تجاربنا حاضرة وصامدة ومحفوظة بين سطورٍ تعرف تمامًا من نحن، وتعرف من أين جئنا، وإلى أي مدى حاولنا أن نكون صادقين مع أنفسنا.