آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

ظلال العزلة

فوزية الشيخي *

قبل فترة ليست ببعيدة قررت أن أبتعد عن بعض وسائل التواصل، ومنها مجموعات الواتس العديدة التي يمتلئ بها هاتفي، وبالفعل تم تفعيل هذا القرار بخروجي من جميع تلك المجموعات، وأيضًا قمتُ بحذف بعض أرقام التواصل مع بعض الشخصيات التي لا تشكّل أهمية في حياتي، فبقاؤهم كعدمِهم، فقررت التخلص من كل تلك الأشياء التي تثقل هاتفي بلا أسف.

يبحث الفرد منا بطبعه عن ملاذ آمن يلوذ به كلما اشتد عليه ضجيج الواقع. فالنفس مهما بلغت قوتها تحتاج إلى لحظات هدوء تنسحب فيها من صخب العالم إلى مساحة أكثر رحابة من الصفاء والطمأنينة والأنس بالذات. ومن هنا لا عجب أن يبحث أمثالي عن فسحة من السكون يطمئن فيها القلب ويستريح العقل بعيدًا عن الصخب. أُمنّي النفس دائمًا أن تعيش منعزلة بعيدًا عن الأضواء. أرى العالم كل يوم يعج بالضجيج وتداخل الأصوات واللهاث خلف متطلبات الحياة التي لا تنتهي، ومع كل ذلك ووسط كل هذا الزخم تصبح خلوة الفرد بنفسه ليست مجرد انعزال عن عالم البشر الذي يكون مقيتًا في بعض الأحيان، بل هي حاجة نفسية وروحية، محطة يعيد فيها الفرد ترتيب أفكاره، وموازنة مشاعره، وتصفية روحه من شوائب الركض الحياتي والانشغال المستمر.

عندما أبحث عن العزلة لم أكن أبحث عنها هربًا من الناس، وإنما بحثًا عن نفسي بين ركام كل تلك الضغوط.

وعندما قرّرتُ أن أبتعد عن كل ذلك الصخب والضوضاء لم يكن ذلك انسحابًا أو كرهًا للحياة، وإنما رغبة مني في فهمها وتأملها بشكل أوضح وأكبر وأشمل، ولرؤية الصورة كاملة دون تشويش.

أنا من الأشخاص الذين يقدرون قيمة اللحظة الهادئة، ممن ينسحبون من صخب الحياة إلى مساحات منفردة، لا يكاد يسمع فيها سوى ضجيج الصمت، ولا يرى فيها سوى عمق وتجليات الفكر، لأنني بكل بساطة وجدت في تلك اللحظات الهادئة وفي ذلك السكون المهيب أنني أكثر صدقًا مع نفسي، أراجع أحداث أيامي بعقلانية، وأرمم ما انكسر منها، وألقي كل ما ليس له أهمية. تلك الأشياء التي أصنعها لنفسي هي لحظات تصالح بيني وبين ذاتي، بين قلبي وظله، وبين روحي وطريقها. أجد أجمل متع حياتي عندما أبتعد عن ضجيج الظهور.

إن اختياري للابتعاد عن كل شيء هو خيار ناضج جدًا لأنني أدركت أن عمق الداخل وسكونه يفوق كل ضوضاء الخارج، ولأنني وجدت فيه سلامي الداخلي الذي لا يقدر بثمن بالنسبة لي.

فلا تعجبوا ممن يختار البعد عن كل ضجيج الحياة وضوضائها، ولا تستغربوا ممن يقدس ويفضل العزلة عن الزحام بشتى أشكاله.

ففي تلك اللحظات فقط، وفي ظلال تلك العزلة، تتهذّب الأرواح وتستقيم الخطى، ويصبح الصمت هو الحكمة المرجوة التي طالما عانقتها وعايشتها بكل حب.