آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

فخ الحنين

المهندس أمير الصالح *

قال لي: لا ترجع إلى ذات المكان الذي تحمل فيه ذكريات جميلة، فإن الزمان تواطأ عليك وعلى المكان، فكل شيء تغير ويتغير، حتى أنت كبرت وتغيرت، وتغيرت أيضًا بعض قناعاتك.

قلت له: هل هذه التوصية تخص محطات السياحة، أم حتى مسقط رأسك وديرة أجدادك؟ لأني سمعت مقولة مفادها: حب المكان من الإيمان.

فرد وقال لي: عندما يكون المكان محلّ كرامة، وبه حقوق مصانة، وأرواح جذابة، وقلوب طاهرة، وجيرة طيبة، وكل من يجلسون حولك يبادلونك الاحترام واللباقة في التعامل كما كان الحال مع من عشت معهم أولًا في فترة طيبة من ماضي عمرك، فكن على ثقة بأن لا الوجوه التي ستراها هي ذات الوجوه التي رأيتها سالفًا، ولا الأنفس هي الأنفس التي تركتها قبل عدة سنوات، وإن ظلت الأماكن كما كانت!!

عزيزي، احتفظ بذكراك صافية ونقية من الشوائب، ولكن امضِ للأمام لاكتشاف جميل حاضرك، واعمل لصنع مستقبل أفضل لك.

قلت له: كلامك كلام إنشائي تشاؤمي.

قال لي: وتفاعلك أنت تفاعل عاطفي محض. كن عقلانيًا وبراغماتيًا، وسترى الوجود ببصيرة أفضل وأنقى. حنينك في الواقع ليس للأماكن، ولكن للأرواح التي كانت هناك يومذاك، وللأنفس الطاهرة التي تعاملت معها حينذاك. ادعُ لتلك الأرواح الطاهرة بالرحمة أو بطول العمر إن كانت ما زالت موجودة.

وتذكر أن أشخاصًا وأماكن وأنفسًا وتجارب كثرًا لم تكتشفها ولم تعشها بعد، وقد تكون تلك الأنفس والأماكن أفضل مما مر عليك سابقًا. كل ما في الأمر أنك تخشى المجهول والمستقبل، وتحن إلى الماضي الذي تعرفه، وتستأنس بتجارب خضتها، وتخشى تجارب لم تخضها بعد.

هل تتوقع، إذا رجعت إلى مدينة ترعرت بها في صباك وأحببتها، ثم غادرتها طلبًا للتعليم والرزق، وأمضيت قرابة ثلاثين أو أربعين سنة بعيدًا عنها، وإن كنت تحن إليها، هل تتوقع أن ترجع وتنشئ بيتًا جديدًا بها، فتعيش ذات الذكريات الجميلة التي عشتها في صباك؟

صوت وضحكة وسواليف

ما زالت بعض الأصوات الشجية تشد حبال الذكرى وتجدد الحنين لأصحابها بمجرد سماعها من جديد، وهكذا أيضًا هي الضحكات المميزة لأنها تجدد ذكرى قلوب طاهرة. أما الحكايات والسواليف فهي حمالة دلالات مميزة، وكل هذا الخليط يجعل الإنسان تلقائيًا يحن إلى أصحاب الأصوات والقهقهات والسواليف، إلا أن الواقع يقول: لقد رحلوا، فعن ماذا أنت تبحث؟

أنفس وقلوب

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: الآية 11]

آية كريمة تختزل كتبًا في علم النفس والاجتماع وإدارة التغيير، ومفادها أن النفس هي المحور في شرارة إحداث الأفضل أو الأسوأ. فقد يزور الإنسان مدينة عامرة بمبانٍ شاهقة تُسمى ناطحات السحاب، ولكن لا روح فيها وتُظهر سلوكًا بارزًا وأخلاقًا تجارية، وقد يزور الإنسان مدينة صغيرة أو قرية وادعة تدب فيها الحياة الاجتماعية منذ ساعات الصباح الأولى، والناس متفائلون وبسطاء وسعداء، وإن كانت جغرافيا المكان محصورة في واحة بقلب الصحراء، أو على ساحل بحر بسيط، أو قرية بين سفح جبل، أو على ضفاف نهر متدفق المياه.

الألفة تُزيل الكلفة

قد يكون البعض سمع مقولة باللاتينية تنص على أن familiarity breeds contempt, وترجمتها أن الألفة تُزيل الكُلفة. وعليه، ينسج البعض رومانسية لكل ما هو ماضٍ، وينسج تشاؤمية لكل ما هو حاضر أو مستقبل. بعد تآلف الأرواح بين النفوس البشرية بالعادة، تتساقط حياة الكلفة والتكلف في التعامل. إلا أن وتيرة الحياة العصرية المتسارعة جعلت الكلفة والتكلف في كل شيء جزءًا من منظومة الاجتماعات واللقاءات. أضف إلى ذلك ظاهرة توثيق اللقاءات أو موائد الطعام الطويلة ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، بقصد أو بدون قصد من التفاخر، فأجفلت البعض من الإقدام على هكذا لقاءات. أنصح من كل قلبي بضرورة حجب توثيق وتصوير الموائد بعد دخول الضيوف إلى قاعة الطعام.

هل سألت نفسك يومًا ما: لماذا تحن لأماكن دون أماكن ولأشخاص دون أشخاص؟ متى تحن للماضي؟

الأغلب الأعم يحنون للماضي لأنهم يعيشون ضغوط الحاضر، أو يقاسون آلامًا مرحلية في حياتهم، أو يستحضرون لحظات عابرة مع شخص عزيز افتقدوه، فيحنون إلى أيام انعدام المسؤولية، وأيام الطفولة البريئة، حيث اللعب واللهو والابتسامة العريضة والنوم الهادئ والجيران الطيبون واللقاءات الأسرية العديدة.

فهل أنت ممن يحن لماضيك ويستلهم القوة منه أكثر ممن يعيش يومه ويتفاءل بمستقبله؟