آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:11 م

يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا

سراج علي أبو السعود *

يبدو الحديث بين الآباء وأبنائهم حول اختياراتهم للتخصص الجامعي في المراحل الدراسية الثانوية حديثًا لا يكاد يخلو منه بيت. تكمن صعوبة هذا الحوار في أن الشاب والفتاة يبلغان في مثل هذا العمر مرحلة البحث عن الاستقلال وتأكيد الذات. وحين لا يصغيان إلى والديهما أو إلى ناصحٍ من غيرهما، فليس ذلك في الغالب عنادًا أو تصلبًا، بل رغبةٌ صادقة في أن يختارا طريق مستقبلهما بأنفسهما. غير أن المأساة الحقيقية تكمن في أن الناصح يرى من موقعه ما لا يراه من في بداية الطريق. إنه كمن يقف فوق شجرةٍ عالية فيرى مخرج الغابة، بينما يمضي أبناؤه بين الأشجار الكثيفة لا يرون إلا ما أمامهم. وهنا يعيش الناصح أزمةً نفسية معقدة، إذ يراهم يسيرون نحو منحدرٍ خطِرٍ، ويتجاهلون صرخاته التحذيرية. ومن شدة خوفه، قد يبدو فظًا أو حادًا في تحذيره، لا عن قسوة، بل لأن العاقبة التي يخشاها لا تحتمل الصمت، ولأن ما ينتظرهم أحيانًا يشبه الموت الذي لا حياة بعده.

في تصوّري أن لغة الخطاب الجذّابة والمؤثرة يفتقدها معظم الآباء والأمهات، وأنا أحدهم. لقد عجزنا في كثير من الأحيان عن التأثير في أبنائنا، حتى في أبسط القضايا أو أخطرها، ولو كان الغرض درء شرٍّ قادم. ويتضح هذا العجز في رفض الأبناء لما نقول، لا عن تمرد أو استكبار، بل لأن لغتنا لم تعد تصل إليهم كما ينبغي. الآية الكريمة: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا لا تنطبق علينا ولا على أبنائنا؛ فالمشكلة ليست في رفضهم سماع النصيحة، بل في ضعف قدرتنا على صياغتها بلغةٍ تحترم استقلالهم وحقهم في الاختيار. من هنا، فإن على الوالدين أن يعيدا تربية أنفسهما قبل أن يربّيا أبناءهما، وأن يطوّرا قدرتهما على الإقناع والتأثير. وإذا كان الأبناء يملكون الحجة والبرهان على صحة اختيارهم، فلا ينبغي إرغامهم على ما لا يرغبون فيه. وما يُقال في ميدان التربية الأسرية، يصدق كذلك في ميادين الخطاب الوعظي والإرشادي؛ فكل آمرٍ بالمعروف يحتاج إلى لغةٍ تُقنع لا تُقصي، وتحتوي لا تُهين. فاللغة التي تحترم عقل المتلقي وحقه في التفكير تفتح قلبه، أمّا الخطاب الذي يتعالى عليه، يغلق سمعه ويزرع في نفسه ما يشبه العناد. بل لعلّه - من حيث لا نشعر - يسوّق للفكرة المضادّة التي نحاول تجنّبها.

الحقيقة، قارئي الشاب المقبل على الحياة، أن طوفانها لا يجدي معه جبلٌ تأوي إليه اتقاءً للغرق؛ فلن يعصمك ارتفاعه حين يناديك ناصح: ”يا بُنَيَّ اركب معنا.“ وأنت أيها الناصح، لست بالضرورة نبيًّا أو وليًّا أو على الحقّ الأبلج؛ فربما ما تظنه نصيحة نجاةٍ، هو في حقيقته نصيحة غرق. نعم، إن النصيحة سلاحٌ ذو حدّين؛ فإن صدرت عن خبيرٍ مدركٍ فهي خير، وإن خرجت بغير علمٍ فهي الهلاك بعينه. فحذارِ، حذارِ أيها الشاب من أن تختار الغرق حين يناديك للنجاة ناصحٌ أمين.