آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

التربية الإيجابية: بين الرحمة والفعالية.. هل تناسب الأطفال المشاغبين؟

غسان علي بوخمسين

ربما أن كثيراً منا صادف هذا المشهد، مثل أن تكون في قاعة انتظار إحدى العيادات، تجد أم شابة يبدو عليها الإجهاد بجوار ابنها ذي الخمس سنوات، وهو أشبه بعاصفة صغيرة من النشاط غير المنضبط. يركض بين الكراسي، يزعج المرضى المنتظرين، يطلق صرخات عالية، ويقذف بجهازه الإلكتروني في الهواء. هذا السلوك يثير سخطًا صامتًا، وأحيانًا علنيًا، من المحيطين. لكن الأم التزمت بمبادئ «التربية الإيجابية» التي استقت مفاهيمها من الكتب المتخصصة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، تحاول جاهدة احتواءه بلغة هادئة: ”حبيبي، أعرف أنك تشعر بالملل والحماس، لكن دعنا نلعب لعبة معًا“، أو ”أنت طفل ذكي ورائع، لكن تصرفاتك الحالية تسبب إزعاجًا بسيطًا للآخرين“.

المشكلة تكمن في غياب الحدود الواضحة والتدخل الفعال والحازم الذي ينتظره الناس من الأم. يستمر الطفل في إثارة الفوضى، ويتراكم الإحباط على الأم، بينما يطرح المحيطون السؤال الجوهري: هل هذه التربية الحديثة، القائمة على اللطف المطلق، فعالة حقًا في الواقع اليومي، أم أنها تفتقر إلى التوازن الضروري بين الرحمة والمسؤولية؟ هذا المشهد اليومي هو النقطة التي ينطلق منها نقاش الآباء في عصرنا، حول تحديات ومأزق التربية الإيجابية.

في هذا المقال، سنحاول استعراض نشأة هذا النهج وتطوره، ونحلل سماته ومراحله، ثم نفحص بدقة نقوداته الجوهرية، لنختم بآراء الخبراء وعلماء المسلمين وتطبيقاتها العملية، في محاولة لمساعدة الآباء على فهم هذا المنهج واتخاذ القرار المستنير بشأنه.

نشأة وتطور التربية الإيجابية

تعود جذور التربية الإيجابية الفكرية إلى أوائل القرن العشرين، على يد ألفريد أدلر «Alfred Adler». أدلر، الذي ركز على فهم سيكولوجية الإنسان ككائن اجتماعي، أكد على أن السلوك السيئ للطفل غالبًا ما يكون تعبيرًا عن حاجة غير ملباة، وأبرزها الحاجة إلى الانتماء والشعور بالقيمة. كان التشجيع، بدلاً من العقاب، هو حجر الزاوية في فلسفته.

في الستينيات والسبعينيات، بدأت هذه الأفكار تترسخ وتتطور، مدمجة مع مفاهيم نظرية التعلم الاجتماعي «Social Learning Theory». في أستراليا، على سبيل المثال، اعتمدت برامج التدريب الأبوية الرائدة مثل ”Triple P - Positive Parenting Program“. شهدت الثمانينيات والتسعينيات تحولاً للتربية الإيجابية إلى فلسفة تربوية شاملة. لم تعد مجرد تقنيات لإدارة السلوك، بل أصبحت تركز على بناء علاقة محبة وتعاونية قائمة على الاحترام المتبادل، مع الاعتراف التام بفردية الطفل ككائن مستقل. هذا التحول العالمي عكس رغبة متزايدة في استبدال الأساليب التقليدية القائمة على السلطة الصارمة «Authoritarian Parenting» بنهج أكثر إنسانية.

الرواد الذين صاغوا النهج: الأسماء المؤسسة

لعب عدد من العلماء والمربين دورًا حاسمًا في بلورة مفاهيم التربية الإيجابية:

• ألفريد أدلر «Alfred Adler»: الأب الروحي. أسس فكرة أن الأطفال بحاجة إلى ”التشجيع“ «Encouragement» ليشعروا بالقدرة والكفاءة، وأن السلوك السيئ هو سعي خاطئ لتلبية الحاجة إلى الانتماء.

• رودولف دريكورس «Rudolf Dreikurs»: تلميذ أدلر الذي قام بتطوير أفكاره عمليًا. ركز على أن سلوك الطفل يهدف إلى تحقيق أحد ”الأهداف الأربعة الخاطئة“ «مثل لفت الانتباه أو الانتقام»، وأن فهم هذه الأهداف هو مفتاح التعامل مع السلوك.

• جين نيلسن «Jane Nelsen»: الشخصية المحورية وراء ”Positive Discipline“. قامت بتأليف كتب وبرامج تدريبية واسعة الانتشار، مؤكدة على ضرورة أن تكون التربية ”لطيفة وحازمة في آن واحد“ «Kind and Firm at the same time».

• دينيس جروغان وآخرون: الذين عملوا على تطوير برامج مثل ”Triple P“ لتصبح نظامًا تربويًا مدعومًا بالأدلة العلمية «Evidence-Based Program» يمكن تطبيقه على نطاق واسع.

السمات الجوهرية للتربية الإيجابية

تتميز التربية الإيجابية بمجموعة من السمات المتكاملة التي تهدف إلى بناء شخصية الطفل بشكل متوازن:

• الدفء والحب غير المشروط

• بناء العلاقة كركيزة: العلاقة الأبوية ليست مجرد تلبية للاحتياجات الأساسية، بل هي عملية مستمرة من الرعاية، التعليم، القيادة، والتواصل المفتوح والصادق

• الحساسية والاستجابة «Responsiveness»: القدرة على قراءة احتياجات الطفل العاطفية والاستجابة لها بسرعة وفعالية.

• القيادة بالقدوة: الآباء هم أول نموذج سلوكي للطفل. التربية الإيجابية تحث الآباء على إظهار صفات مثل الصبر، اللطف، النزاهة، والتعامل الهادئ في المواقف الصعبة.

• التركيز على تعليم المهارات بدلاً من العقاب: استبدال العقاب القاسي بتقنيات تربوية مثل إعادة التوجيه «Redirection»، والعواقب الطبيعية والمنطقية «Natural and Logical Consequences»، مما يعلم الطفل تحمل مسؤولية أفعاله دون المساس بكرامته.

مراحل التربية الإيجابية: دليل للتكيف مع النمو

تعتبر التربية الإيجابية عملية ديناميكية تتكيف مع مراحل نمو الطفل المختلفة. ويمكن تقسيمها إجرائيًا إلى مراحل، كما في برنامج ”Triple P“:

1. مرحلة الرعاية والأساس «الولادة - الطفولة المبكرة»: التركيز على توفير بيئة آمنة وداعمة، وبناء الروتين اليومي المستقر، وتعليم المهارات الأساسية عبر التعزيز الإيجابي الفوري.

2. مرحلة التعليم والمدرب «الطفولة المبكرة - دخول المدرسة»: يبدأ فيها تعليم المهارات الاجتماعية والعاطفية بشكل أكثر وضوحًا، باستخدام تقنيات مثل الثناء الوصفي «Descriptive Praise» والتقليد، مع وضع توقعات سلوكية واضحة وواقعية.

3. مرحلة التدريب والمستشار «المراهقة المبكرة»: يتحول دور الوالد إلى تدريب الطفل على الاستقلال واتخاذ القرارات، مع التركيز على الانضباط الحازم الذي يعلم المسؤولية الذاتية. يتم التعامل مع الأخطاء كفرص للتعلم.

4. مرحلة الإرشاد والاستشاري «المراهقة المتأخرة وما بعدها»: يصبح الوالد مستشارًا يوجه ويستمع، مع التركيز على تمكين المراهق من تحمل مسؤولية حياته، والاهتمام بالصحة النفسية للوالدين للحفاظ على نموذج متوازن.

التطبيقات العملية للتربية الإيجابية

تتجاوز التربية الإيجابية التنظير لتصبح أدوات يومية، أشهرها تقنيات ”PRIDE“ «التي تعزز التنمية العاطفية والسلوكية»:

1. P - Praise «الثناء»: ركز على الثناء النوعي الوصفي.

2. R - Reflect «الانعكاس»: أعد صياغة كلام الطفل لتدل على أنك تستمع إليه.

3. I - Imitate «التقليد»: انضم إلى لعب طفلك وقلد حركاته.

4. D - Describe «الوصف»: كن ”معلقًا رياضيًا“ لأفعال طفلك.

5. E - Enjoyment «الاستمتاع»: أظهر الدفء العاطفي من خلال الإيماءات.

النقودات والصعوبات

رغم الإجماع على أهمية الجانب الإيجابي، يواجه هذا النهج نقودًا علمية وعملية جوهرية:

• عدم الاتساق الأبوي: أحد أكبر التحديات هو عدم قدرة الآباء على تطبيق المنهج بانتظام، مما يرسل رسائل متضاربة للطفل، ويقلل من فعالية الحدود الموضوعة، ويؤدي إلى نتائج سلبية.

• عبء المثالية الأبوية: يضع النهج ضغطًا نفسيًا هائلاً على الآباء ليظهروا بمظهر ”الوالد المثالي الهادئ“ في كل الظروف، وهو أمر غير واقعي وقد يؤدي إلى الشعور بالفشل والإحباط، خاصة في غياب دليل علمي شامل على فعاليته طويلة الأمد في كل الثقافات.

• الخوف من العواطف السلبية: يرى بعض النقاد أن التركيز المفرط على ”الإيجابية“ قد يحمي الأطفال من الشعور بالخيبة أو الغضب أو الحزن، وهي عواطف ضرورية لنمو المرونة العاطفية «Resilience» وتعلم كيفية التعامل مع تحديات الحياة القاسية.

• اللبس بين اللطف والتساهل: تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي نسخة ”مفرطة في اللطف“ من التربية الإيجابية، والتي يتم تطبيقها دون وضع حدود واضحة أو نتائج منطقية للسلوكيات الخاطئة. هذا يؤدي إلى تربية أطفال يشعرون بالاستحقاق، ولا يحترمون سلطة الكبار، مما يزيد من الفوضى بدلاً من التوازن المنشود.

آراء الخبراء والمنظور الإسلامي: الدعم المشروط

يدعم غالبية خبراء علم نفس الطفل والتربية النهج الإيجابي كإطار عمل أساسي. تشير الدراسات الحديثة إلى فوائده في التنمية المعرفية والاجتماعية. ومع ذلك، يحذر الخبراء من التطبيق الحرفي الجامد، ويطالبون بالمرونة، وضرورة دمج التقنيات الإيجابية مع الحزم الواضح في وضع الحدود. وينصح الخبراء الآباء بضرورة الاستعانة بمتخصصين في حالات السلوكيات الشديدة «مثل فرط الحركة واضطراب نقص الانتباه» بدلاً من الاعتماد على النصائح العامة فقط.

رأي علماء المسلمين: التوافق مع الرحمة النبوية

يرى علماء المسلمين أن المبادئ الأساسية للتربية الإيجابية تتوافق جوهريًا مع تعاليم الإسلام التي تركز على الرحمة، الاحترام، والعدل في التعامل مع الأبناء. السنة النبوية زاخرة بمواقف تظهر النبي محمدًا «صلى الله عليه وسلم» في قمة اللطف واللين والتشجيع مع الأطفال، مع التأكيد في الوقت ذاته على أهمية تعليمهم المسؤولية، التقوى، ووضع حدود واضحة مستمدة من الشريعة.

لكن علماء المسلمين يحذرون من إلغاء مفهوم العقاب المنضبط والتربوي إذا لزم الأمر، فالإسلام يوازن بين الرحمة والعدل. وعليه، يعتبر ”التربية الإيجابية الإسلامية“ نهجًا فعالًا يضيف بُعدًا روحيًا وأخلاقيًا، لتربية أجيال ملتزمة دينيًا واجتماعيًا ومتوازنة نفسيًا.

في الختام، تتجلى التربية الإيجابية كفلسفة تربوية عميقة وليست مجرد مجموعة من التقنيات العابرة. إنها ليست وصفة سحرية تزيل مشاكل ”الأطفال المشاغبين“ بين ليلة وضحاها. بل هي بوصلة توجه الآباء نحو بناء علاقات قائمة على الاحترام والرحمة. المفتاح يكمن في إدراك أن الفعالية لا تتحقق باللين المطلق، بل بدمج اللطف في العلاقة والحزم في التوقعات. إن طفل اليوم، الذي يواجه تحديات العصر الرقمي وضغوط الحياة المتزايدة، بحاجة إلى والدين يمتلكان القدرة على الاستماع بصدق، ووضع الحدود بوضوح وثبات. التربية الإيجابية، عندما تُطبق بوعي واتساق، تمكننا من تربية أطفال واثقين، مسؤولين، وقادرين على تنظيم عواطفهم بمرونة. فلنتذكر دائمًا: المهمة ليست في تربية طفل مثالي، بل في إعداد إنسان متوازن للمستقبل.