آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

السمات والأغراض في الأعمال الشعرية الكاملة للراحل سيد حسن السيد «أبو الرحي»

محمد الحميدي

الغوص في مجاهل الثقافة المحلية واستخراج كنوزها من الشعر والنثر يشبه عمل المناجم، فالعامل في البحث والتحقيق؛ كعامل المنجم، يكتشف بعض العروق النابضة بالذهب أو المعادن الثمينة، التي تكون مطمورة بالكثير من أطنان التربة، بل ولربما اُضطر للحفر في الصخور القاسية لاستخراج قطعة ألماس أو جوهرة من جواهر الأحجار.

هذا حال التراث المحلي، فكثير منه لا يقدر بثمن، ولا يمكن للعين أن تكتشف قيمته؛ إلا إذا كانت عيناً خبيرة بالكلمات، ومن الأمثلة البارزة؛ المجموعة النفيسة للشاعر السيد حسن السيد «أبو الرحي»، إذ أفنى زهرة شبابه في خدمة الثقافة والأدب، وظل يكتب حتى انتقاله إلى جوار ربه.

السمات الأساسية لشعر السيد حسن:

ينتمي السيد حسن إلى جيل شعراء الثمانينات «1966 - 2021 م» الميلادية للقرن العشرين ولهذا سيكون متسماً بذات السمات التي انتشرت وراجت بين أبناء تلك الفترة، فعلى سبيل الشكل الشعري؛ ثمة اتجاهات ثلاثة تكونت وبدأت تُتداول بين الأدباء، وهذه الأشكال الثلاثة هي:

1. الشعر العمودي: وهو الشكل الذي استخدمه الشاعر في كتابة أشعاره مع التأكيد على التزامه به وعدم الخروج عليه «يقول في الجزء 2 ص 11: كنت أنظم القصائد الطويلة في وصف المناظر الطبيعية والمعارك والبطولات التاريخية والتغني بأمجاد الماضي العريق متأثرا بالأسلوب القديم في نظم الشعر»، بل يرى نفسه قريبا من شعراء الجاهلية، وخصوصاً زهير ابن أبي سلمى وأشباهه؛ الذين يتركون القصيدة حولا كاملا تتخلق في الرأس، قبل نشرها للجمهور «يقول في الجزء 2 ص 12: تربطني بزهير بن أبي سلمى وتهذيبه للشعر صلة وثيقة فأنا أنظم في كل عام بضع قصائد تتعرض للتنقيح كلما وجدت إلى ذلك سبيلا».

2. شعر التفعيلة: وهذا قليل جدًّا، بل ربما من النادر في شعره، والسبب التزامه بالكتابة العمودية، إلا أننا لا نعدم رؤية محاولاته عبر هذا النوع من الكتابة، وإن جاءت قليلة، فهناك مقطوعته التي احتوتها قصته ”ليلة الحناء“ «ج 2 ص 99»، وفيها ملامح التفعيلة، ولكنها لا تبدو بشكل ساطع؛ بسبب قصرها «ج 2 ص 119»:

"يا جهشة الحناء في الفرح المُكفن بالسواد
لُمِّي الرماد على الرماد..
هذي القديحُ منارة تبكي
ومحراب يشاطرها البكاء
والموت مصطافٌ
يجول بموكبٍ من كبرياء
ماذا ستصنع
والشوارع لم تُفصَّل باتساع الموت؟!
إن الموت يجتاح المنازل
كي يشق طريقه دون انحناء"

وكذلك يندرج ضمن هذه الخانة ما قاله من شعر في جانب القضية الفلسطينية، إذ حضورها لديه يجعل لأشعاره اختلافاً عما اعتاد القيام به؛ لتصبح قريبة من شعر التفعيلة، مع بقاء التزامها بالشكل العمودي وأسسه «ج 2 ص 368: قصيدة صرخة القدس - ص 411: قصيدة لو يعود النازحون - ص 414: قصيدة أطفال غزة».

3. الشعر المنثور: وهو لون من الشعر كتبه أدباء تلك الفترة، ولا زال البعض يستخدمه إلى اليوم، والشاعر اتجه إليه وكتب فيه، مدركا أنه يحمل خصائص الشعر وملامحه، وقد تجلى بوضوح في قصته ”ليلة الحناء“، حين قام بتوظيف قلمه الأدبي وشاعريته العالية؛ لخلق عمل درامي يحاكي ما حصل في خيمة العرس والحريق الذي أودى بحياة العشرات موتاً وتشويهاً، فالراوي فيها يتحدث بأنّة فجائعية لا تخفى على القارئ «يقول في الجزء 2 ص 13: ولا أبعد عن الصواب إذا قلت أنني لا أميل إلى النثر كثيراً، والقصة القصيرة التي أكتبها هي أشبه شيء بما يعرف اليوم بالشعر المنثور».

لعل هذه الحادثة قد أثرت عليه بشكل مباشر وعميق؛ نظراً لارتباطه بالنساء داخل الخيمة، وهو ما جعله يسير في شعره ونثره ناحية البكائية والاحتفاء بالموت أكثر من احتفائه بالوجود والبهجة والحياة «ج 2 ص 13: يتضح ذلك في النثر من أسماء القصص التي نشرها "الذكرى الأليمة - ليلة الزفاف - أخيراً فقد أحمد الأمل - رقد رقدته الأخيرة»، وهي أغراض كتب فيها، لكنها أقل عند احتسابها ومقارنتها بمجمل كتاباته.

الأغراض التي كتب فيها يمكن تقسيمها إلى:

الولائيات: وفيها اتباع لنفس النهج التقليدي القديم، سواء من الشعراء المعاصرين له أو السابقين عليه، فيبدأ بذكر النبي، ثم يسترسل متتبعاً الترتيب المعروف «الأربعة عشر معصوماً»، فلا ينتهي إلا بعد أن يكون مر عليهم جميعا «ج 2 ص 17 وما بعدها: ديوان "نفحات قدسية خير مثال على هذا النهج فهو يتكون من 14 باقة، وكل باقة تختص بأحد المعصومين باستثناء الأخيرة حيث تحكي ما حل بهم من ظلم»، الترتيب نفسه نراه إلى اليوم في كتابات الشعراء، فهو تقليد دارج، وأيضا القصائد الأخرى تحتوي على شذرات من ذكر أهل البيت للتبرك بهم وبذكرهم داخل القصيدة، وهو ما يشير إلى عمق الرابطة بين الشاعر والمعصومين الأربعة عشر.

1. البكائيات: وهو باب واسع من أبواب شعره، ففيه المراثي الخاصة بالنبي وأهل بيته مما احتوته الولائيات، كذلك ما جاش به صدره من نفثات شعر ونثر بحق المفجوعات في حادثة حريق العرس، أيضا يضاف له ما كتبه من نعي لأصدقائه واحداً بعد واحد، حتى أنه استشعر اقتراب الموت وبدأ الاستعداد له، بل وتمناه نظير ما يقاسي من عذاب أثناء رحلة الغسيل الكلوي، وأخيرا ظهرت بكائياته في المرضى والمريضات الذين عجز الطب عن شفائهم، من أفراد عائلته وأقربائه، فتأثر بهم وبرحيلهم وكتب حولهم البكائيات والتوسلات، يقول في مقطوعته ”سأبكي على نفسي“ «ج 3 ص 361»:

"سأبكي على نفسي وأندب أحبابي
وأحيا كئيباً بين أهلي وأترابي

وأشرب من دَنِّ الكآبة والأسى
كؤوس سُموم من همومٍ وأوصابِ

أيا زمن الشؤم الذي حلَّ ساحتي
وأيتم نفسي من رفاق وأصحابِ

أحبَّة قلب لا أطيق فراقهم
رحيلهمُ أبدى دموعي وتنحابي"

2. الفرائحيات: وفيها يرتدي الشاعر ثوب الإنسان الذي يتجاوز أحزانه ليطل على الوجود ويؤكد حضوره، فحين يتزوج ابن أحد أصدقائه يكتب فيه أبياتاً ليشاركه الفرحة، وحين يأتي مولود تراه يحتفي بالحياة ويرسل التهاني لوالديه، ومن أكثر الأشياء التي تؤكد هذا الاتجاه في شعره وجود ديوان خاص بالتهاني وبطاقات الزواج، حيث كتابة أبيات من الشعر، لكل طالب زواج، يلصقها على ظهر بطاقة الدعوة «ج 2 ص 301: عنوان الديوان ”بطاقات أفراح“»، وهذا الديوان لو تم صناعة واحد مثله في زماننا؛ لتم نعته بالابتذال، ولكنه خلال تلك الفترة مثّل ضرورة اجتماعية لا غنى عنها «يقول في الجزء 2 ص 303 في تقديمه للديوان: أنا هنا أثبت بعض تلك المقطوعات والأبيات التي نظمتها استجابة لرغبة الكثير من الأصدقاء والإخوان الأعزاء الذين يلحون علي في إثباتها»، فهذا الديوان لا يموت، وسيبقى خالداً يرجع الناس إليه بين وقت وآخر؛ لحاجتهم إلى ما فيه من أشعار.

3. الفكاهيات: وهي قصائد قليلة وموزعة هنا وهناك، ولا تمثل ديوانا مستقلاً، فرغم الحياة الصعبة والمريرة والتركيز على الموت، إلا أنه لا يخلو من لمحات واقتناصات يدهش بها المستمعين، ويبعث في أنفسهم السرور، وعلى وجوههم البشاشة والابتسام، مثل قصيدة ”لامني صاحبي“ «ج 2 ص 408» التي يمزج المرارة فيها والأسى بالسخرية:

"لامني صاحبي وقال ألم أنـ
ـهك ألا تطُبَّ سوق القِمار؟!

قبل عامين كان عندك مليـ
ـون ريالٍ ذابت كذوب النضار

غير أن النضار قيمته فيـ
َهِ وهذا كالزئبق الفرار

ما لهُ عودة ترجَّى فإن عـ
ـاد فشيء كالملح أو كالبهار

سُمّيت سوق أسهم وهي في الواقـ
ـع نادٍ للنهب والانتحار"

أو مثل قصيدته ”تكلمي يا نقودي“ «ج 3 ص 25»، حيث الحسرة والندم تمتزجان السخرية المرة من الحياة:

"تكلمي يا نقودي
وعربدي في الوجود

من ليس يملك مالاً
يحيا حياة القرود

من ليس يملك مالاً
فما له من وجود"

4. الإخوانيات: ولعله أوسع الأبواب التي طرقها، فجلُّ عمله الشعري يندرج ضمن هذا الإطار، فلا يترك مناسبة اجتماعية أو عائلية إلا وكتب فيها أبياتاً ولم يترك أحداً من أصدقائه إلا وبعث إليه بقصيدة، بمناسبة وبدون مناسبة، وكأنه بهذا الصنيع؛ يؤكد على اجتماعية الشعر، وأن سبب وجوده؛ يتمثل في حاجة المجتمع إليه «يقول في الجزء 2 ص 233 وما بعدها: ديوان «إخوانيات» يعبر بصدق وأمانة عن أحاسيس ومشاعر تولدت في أعماقي نتيجة مواقف ولحظات انفعال أملتها ظروف حياتية متباينة، فيها ما يطرب القلب ويسعده، وفيها ما يشقيه ويجهده»

5. الفلسطينيات: وهي قصائد قليلة متوزعة داخل الدواوين، تروي جانباً من أحداث القضية الفلسطينية والمآسي التي عاصرها الشاعر؛ كاستشهاد محمد الدرة، أو الهجوم على المسجد الأقصى، فهي أحداث تبقى داخل الذاكرة وتسبب للنفس المزيد من الشجن، وهنا الشاعر سعى إلى إخراج أشجانه عبر البوح الشعري، مع تأكيده على التزامه بالقضية الفلسطينية، وأنها جزء لا يتجزأ من الجسد العربي، وبهذا الفعل يقف جنباً إلى جنب مع العروبيين والقوميين ويتخذ ذات الموقف يقول في قصيدة ”إننا قادمون!!“ «ج 2 ص 343: التي تحكي مرور نصف قرن من احتلال الصهاينة لأرض فلسطين»:

"مهبط الوحي والهدى والصلاح
إننا قادمون رغم الجراح

إننا قادمون رغم الأعاصيـ
ـر وقصف الردى وعصف الرياح

إننا قادمون رغم الضحايا
تتهاوى كالشهب فوق البطاح"

إلى أن يقول «ج 2 ص 344»:

"يا فلسطين منذ خمسين عاماً
نحن أسرى المستكبر السفاح

وبنو يعرب الكرام رقودٌ
في سبات النعيم والأفراح

ورصاص العدو يحصد بالآ
لاف منا في غدوة ورواح"

ختاماً

مسألة أخيرة نختم بها، تتعلق بخاصية أسلوبية، تقوم على استعمال صيغة السؤال أو الاستفهام، حيث تحضر كجملة طلبية إنشائية في مقابل الجملة الخبرية، فالشاعر لا يستعمل الاستفهامات إلا بشكل طفيف ومقصود؛ لإحداث ردة فعل لدى المستمع، إذ يتضح أنها نتيجة للانفعال داخل القصيدة، هذه الخاصية قليلة الحضور لدى الشاعر وتكاد تكون شبه منعدمة، وهنا يمكن التمثيل بقصيدة ”صرخة القدس“ «ج 2 ص 368 وما بعدها»؛ حيث قام بتوظيف هذا الأسلوب لاستثارة المشاعر، يقول «ج 2 ص 373-374»:

"أين الكياسة والفراسة
في بني العرب الكرام؟!
أين الكرامة والمروءة والشهامة
والفتوحات العظام؟!
أين البطولات التي قامت لها الدنيا
ولم تقعد إلى يوم القيام؟!
أين الفيالق
والبيارق في يد الأبطال
تجتاح الحصون
وتفتح البلدان
لا تخشى ملاقاة الجبابرة الطغام؟!
أين الرجال الصالحون؟!
وأين عشاق الشهادة
من يرون الجبن في سوح الوغى عاراً
وعرسهم لقاءُ الخصم
في يوم الزحام؟!"

الفرق بين أسلوبي الخبر والإنشاء؛ أن الخبر يعطي المستمع أو المتلقي الخبر جاهزاً ويريد منه التصديق به والتأكيد عليه، أما الإنشاء فينوع في الخطاب ولا يكون هنالك مجال للصدق والكذب بل للحركة والتفاعل والتمكن من الإنجاز من عدمه، وهو ما سار فيه على نهج الشعراء الذين سبقوه.

هذه إطلالة سريعة على شعر الشاعر السيد حسن السيد «أبو الرحي» وفيها تتضح بعض سماته الشعرية والموضوعية والأسلوبية.

12 يونيو 2021 م
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
عماد آل عبيدان
9 / 11 / 2025م - 4:42 ص
قراءة ثرية تليق بقامة السيد حسن رحمه الله أعادت إلينا صوته الشعري المفعم بالوجدان والإيمان وجعلتنا نرى في شعره مرآة لزمن يفيض بالحياة رغم الرحيل فشكرا لك أيها الأستاذ العزيز.
.