آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

اقتصاد الأسرة

ياسين آل خليل

نحن نعيش زمنا مختلفا عن بقية الأزمان، حيث تتراكم على الأسرة مسئوليات تتجاوز مجرد توفير المأكل والمسكن. ارتفاع تكاليف المعيشة، وتغير أنماط الاستهلاك، وتنامي الضغوط الأسرية والاجتماعية، تضعنا في مواجهة دائمة مع أسئلة عديدة تحتاج إلى إجابة، من بين تلك الأسئلة، كيف نعيش بتوازن..؟ كيف ندير المال دون أن نفقد أنفسنا في مطاردته..؟ في هذا المشهد، يتضح لنا أن الإدارة والانضباط المالي في زمن التسوّق الإلكتروني، والاستهلاك المتسارع، والعروض المغرية، وشعار «اشترِ الآن وادفع لاحقًا»، باتت ضرورة حياتية من شأنها أن تُبقي الأسرة متماسكة.

لم يعد الإنفاق يُوجّه فقط للسكن والغذاء، بل تشعّبت بنود المصاريف لتشمل الترفيه، والاشتراكات الرقمية، والوجبات الجاهزة، وحتى «الكماليات المتكررة» التي باتت جزءًا من الروتين اليومي. تتحول هذه النفقات الصغيرة إلى عبء شهري ثقيل إذا تُركت بلا رقابة. فالأسرة التي لا تميّز بين الحاجة والرغبة وما يلزمها وما يُلهيها، تجد نفسها في نهاية الشهر تسأل.. أين ذهب كل ذلك المال..؟ والتحدي ليس في الاستغناء عن المُتَع فحسب، بل في تهذيبها حتى لا تتحوّل إلى عادة تستنزف الميزانية دون وعي من رب الأسرة أو حتى أفرادها.

وبين عشية وضحاها وجدنا أنفسنا في زمن تتقدمه الصورة، صار الكثيرون ينفقون من أجل الانطباع، لا من أجل الحاجة. حفلات أطفال بتكاليف تتجاوز منطق العمر، ومشتريات لا تخدم إلا عدسة الكاميرا، أصبحت من مظاهر «المستوى» الاجتماعي. هذه الثقافة تخلق وهمًا بالنجاح، لكنها تُخفي خللاً ماليًا يصعب إصلاحه لاحقًا. فالأسرة التي تلهث خلف المظاهر قد تغفل عن راحة البال والاستقرار وهي الأهم، فجودة الحياة الحقيقية ليست تلك التي تُقاس بما يُنشر، بل بما يُعاش.

حقيقة حياتية علينا تقبلها، لم يعد الدخل الواحد كافيًا لضمان الأمن المالي. أي أزمة، كفقدان وظيفة، أو مرض مفاجئ، أو تغير في المصاريف، يمكن أن يُربك ميزانية الأسرة بأكملها. من هنا، تظهر أهمية تنويع مصادر الدخل. مشروع بسيط من المنزل، مهارة تُستثمر في وقت الفراغ، أو حتى مساهمة تدريجية من أحد أفراد الأسرة، كلها وسائل لتخفيف الضغط، وبناء أرضية أكثر استقرارًا للمستقبل.

الكثير من المشاكل الاقتصادية الأسرية ليس سببها قلة المال، بل غياب التخطيط والوعي. عندما يكون الحوار المالي مفتوحًا بين أفراد الأسرة، حيث يُشرك الأبناء في فهم الميزانية وأهمية الادخار، فإن النتيجة الحتمية هي تربية جيل واعي يدير المال بحكمة بدل أن يكون ضحية الإنفاق العشوائي.

ليس المطلوب أن نتقشف، بل أن ننفق بذكاء. إعداد ميزانية بسيطة تُبيّن الدخل والنفقات، مع الانتباه إلى تفاصيل صغيرة كالاستغناء عن القهوة الجاهزة يوميًا وصنعها في المنزل، يمكن أن يحقق توفيرًا ملحوظًا في نهاية الشهر. الترفيه كذلك يمكن أن يكون بسيطًا وممتعًا دون أن يكلف كثيرًا، فاللحظات العائلية المشتركة لا تُشترى بالمال.

لا أحد يولد خبيرًا في إدارة المال، لكن كل أسرة قادرة على التغيير. تبدأ بخطوة بسيطة، وعي بالواقع، تعديل للعادات، وصبر على النتائج. الاقتصاد الأسري فن وعلم، وبتوازنه تتحقق الراحة والأمان، حتى وإن كانت الموارد محدودة.