آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

المعروف لا يضيع… لكنه يكشف الوجوه

هاشم الصاخن *

تمرّ في حياتنا مواقف تبقى شاهدة على معدن الإنسان، منها ما يرسخ في الذاكرة عقودًا طويلة، ومنها ما يُمحى في أيامٍ معدودة.

فقد يصنع أحدهم معروفًا قبل خمسين عامًا، فيظل أثره حاضرًا في وجدان من تلقّاه حتى آخر عمره، يذكره بامتنانٍ كلما مرّ به خاطر العرفان.

وفي المقابل، من يُسدى إليه معروفٌ كبيرٌ، فلا تمضي سوى أيام حتى يتنكر له وكأن شيئًا لم يكن، وكأن الجميل لم يمرّ به يومًا.

ويا ترى، كم وكم من هذين النموذجين مرّ في حياتنا؟

المعروف هو عمل خير يقوم به الإنسان اتِّجاه غيره بدافع إنساني وأخلاقي، لا طمعًا في مكافأة ولا انتظارًا لشكر؛ بل لأنه يرى فعل الخير واجبًا يريح ضميره ويعبّر عن إنسانيته.

وهناك فعل قريب جدًا من المعروف وهو الجميل؛ فالجميل إحسان يترك أثرًا طيبًا في القلب، يُقدَّم بدافع المحبة أو الكرم، ويُقابَل عادةً بالامتنان والشكر.

وهنا يتفاوت الناس بين من يحفظ المعروف ويخلّده وفاءً، ومن يتناساه أو ينكره جحودًا، وبينهما تُختبر النفوس وتُقاس القيم وتظهر معادن الناس.

لا يقتصر المعروف على علاقةٍ بعينها، فهو موجود بين الزوجين في المودة والرحمة، وبين الآباء والأبناء في البرّ والرعاية، وبين الأشقاء في التكافل والوقوف وقت الحاجة.

غير أن حديثنا هنا ليس عن المعروف الطبيعي الذي تفرضه الروابط الأسرية؛ وإنَّما عن المعروف الذي ينشأ بين الأصدقاء أو بين أفراد المجتمع، ذاك الذي يقوم على المبادرة الطيبة من دون إلزام، وعلى الإحسان الذي يُقدَّم لوجه الله «تعالى»، فيكشف عن معدن الإنسان وعمق وفائه.

هؤلاء هم الذين تحفظ ذاكرتهم المواقف لا المظاهر، ويقيسون الناس بما قدَّموه لا بما يملكون.

من لا ينسى المعروف هم أصحاب القلوب النقية التي لا تنسى من مدّ لها يدًا يوم الضيق، ولا من خفّف عنها ألمًا ولو بكلمة. وقد تمرّ عليهم السنون وتتغيّر الظروف، لكنهم لا ينسون من أحسن إليهم ولو بقدر قطرة؛ لأن المعروف عندهم دين في أعناق الوفاء، لا يسقط بالتقادم ولا يُغيّره الغنى ولا الجفاء.

وكم هي اللحظات السعيدة حين تجد من يقف إلى جانبك في شدّتك، شخصًا كنتَ قد أسديتَ له معروفًا يومًا، فإذا به يردّه إليك بإحسانٍ وامتنان، ويقول بصدقٍ مؤثر: أنا لا أنسى معروفك إطلاقًا.

تلك اللحظة وحدها كفيلة بأن تُنسيك تعب السنين، وتُشعرك أن الخير لا يضيع، وأن المعروف إن تأخر صداه، فإنه يعود بصوتٍ أجمل في زمنٍ أجمل.

لكن في المقابل، كم هو مؤلم أن ترى المعروف يُقابل بالجحود، وأن تمتد يدك بالخير في لحظة ضعفٍ لإنسانٍ، ثم تكون أول من يتنكر له عند قوّته.

هؤلاء هم الذين وقفتَ معهم في محنتهم يوم تباعد الناس عنهم، وسندتَهم حين خذلهم الجميع، فكنتَ اليد التي رفعتهم من القاع إلى القمة، والظلّ الذي آواهم في وقت العراء. ثم ما إن تبدّلت أحوالهم، حتى أنكروك كأنك لم تكن، وكأن كل لحظة دفءٍ أو تضحيةٍ كانت مجرد سحابة صيفٍ مرت بلا أثر.

كم من شخصٍ وقفتَ معه حتى أصبح مسؤولًا أو صاحب منصب، فلما استقام له الكرسي نسي من كان يقف وراءه وهو يتعثر.

وكم من فقيرٍ كنتَ تبحث له عن لقمة عيشٍ تحفظ كرامته، فلما فاض عليه المال والجاه، أصبح يتكبّر عليك وكأنك مددتَ إليه معروفًا منّةً لا رحمة.

وكم من صديقٍ كان يحلف برأسك، ثم صار يضربك فوق رأسك، ناسيًا الأيام التي كنتَ له فيها السند والحصن.

وكم من جارٍ كنتَ الأقرب إليه في حاجاته ونقصه، فإذا بك تراه اليوم يعرض بوجهه ولا يردّ السلام، كأن قلبه تغيّر بتغيّر أحواله.

بل حتى في بيئة العمل، كم من زميلٍ كنتَ له عونًا في بداياته، تشاركه المعلومة وتدعمه أمام المدير، وتسدّ نقصه بخبرتك، ثم إذا صعد المنصب تغيّر عليك، وأصبح يتعامل بتعالي وكأنك لم تكن من أسباب نجاحه.

وكم من صديقٍ مقرّبٍ تغيّر فجأة دون سببٍ واضح، وكأن العشرة التي جمعَتكما كانت صفحة أُغلقت بيده دون وداع، يراك في الطرقات فيتظاهر بالانشغال، ويكتب عن الوفاء بينما هو أوّل من خانه.

وكم من صديقٍ توسّمتَ فيه الخير حين قرّر أن يفتح مشروعًا تجاريًا، فكنتَ له السند والمشجع والمستشار الصادق، تفعل ما يفعله الأوفياء لأصدقائهم، فلما نجح وذاع اسمه وأصبح من تجّار المنطقة، نسيك تمامًا، وأصبحت من الماضي الذي لا يُذكر.

وأحيانًا — والإنصاف واجب — قد يكون النكران عن غير قصد، ناتجًا عن نسيانٍ صادقٍ لا يحمل جحودًا، كما في قصة يوسف حين قال لصاحبه في السجن: «اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ» «سورة يوسف/ الآية: 42»، فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث - نبي الله يوسف - في السجن بضع سنين. فذلك نسيان لا يُلام عليه صاحبه؛ لأن الإنسان بطبعه ينسى.

لكن حين يكون النسيان مقصودًا ومتصنّعًا، حين يتظاهر الإنسان بعدم التذكّر فقط ليتنصّل من الجميل، فذلك إجحاف فوق إجحاف؛ لأن التظاهر بالنسيان أذى مضاعف، فهو يمحو المعروف مرتين: مرة من الذاكرة، ومرة من القلب.

وحينما يصنع الإنسان معروفًا، فهو لا يفعله انتظارًا للشكر أو الثناء أو ردّ الجميل، بل لأنه نابع من حبٍّ حقيقي لعمل الخير، ومن رغبةٍ صادقة في أن يرى أثر فعله في حياة الآخرين، ولو دون أن يُذكر اسمه.

فالمعروف الحقيقي هو الذي يُصنع لوجه الله «سبحانه» وحده، لا لعيون الناس ولا لسمعةٍ تُقال، ومن ذاق لذّة العطاء الخالص يدرك أن جزاءه لا يُنتظر من بشر؛ بل من ربٍّ لا ينسى إحسان المحسنين.

وقبل الختام، أعود قليلًا إلى معروف ذوي القربى، فهو في أحيانٍ كثيرة أشدُّ ألمًا حين يُقابل بالنكران من نكران الغرباء.

فحينما يصدر المعروف اتِّجاه قريبٍ تربطك به صلة رحمٍ أو قرابة دم، يكون الوجع مضاعفًا إن لم يُثمر فيه أثر الإحسان؛ إذ الخذلان هنا لا يصيب الجسد فحسب؛ بل يطرق أبواب القلب.

ومع ذلك، فهذه هي سنَّة الحياة، فليس كل من نُحسن إليه يُدرك قيمة ما قُدّم له، ولا كل من نغرس فيه الخير يُثمر وفاءً.

ولذلك علينا أن نسير في طريق المعروف مع الجميع، قريبًا كان أو بعيدًا، نصنع المعروف لله «تبارك وتعالى» لا للبشر، ولا ننتظر من أحدٍ جزاءً ولا شكورًا، فالثواب الحقيقي عند من لا ينسى، وعنده تُحفظ المواقف وتوزن النيات.

سيهات