آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

حين تصبح القناعة بديلا للكفاءة

باسم آل خزعل

في عالمٍ تتزاحم فيه الشهادات والمناصب الإدارية، وتطغى فيه العلاقات أحياناً على الجدارة، يبرز تحدٍ مصيري يواجه بعض المنشآت والمؤسسات والشركات يتمثل في صراع بين القناعة الشخصية والكفاءة الحقيقية. فكم من كفاءة استثنائية ذبلت بسبب قرار إداري متسرّع، وكم من خبرة تراكمية أُهملت تحت مبررات التغيير والتطوير.

حين تتحول القناعات الشخصية والإعجابات الذاتية إلى معايير للحكم على الأداء، يصبح السؤال محرجاً: من سيدافع عن الخبرة حينما تُهدر؟ من سيرعى الكفاءة حينما تُهمش؟

تشير الدراسات الإدارية إلى أن 40% من الموظفين ذوي الكفاءة العالية يفكرون في ترك وظائفهم بسبب غياب العدالة في التقييم. هذه ليست مجرد أرقام، بل هي مؤشر خطير على اختلال الموازين الإدارية. فبيئة العمل الحديثة لا تهددها التحديات الاقتصادية بقدر ما تهددها اختلالات التقييم والانطباعات الشخصية على الحقائق المهنية.

كم من موظفٍ التزم بمعايير التميز سنوات طوالاً، وقدم أفكاراً إبداعية وحلولاً مبتكرة، ليجد نفسه فجأة خارج دائرة الضوء، فقط لأن مديراً جديداً لم يقتنع به، أو لأن رؤيته لم تتوافق مع توجهات الإدارة المستجدة. السؤال الجوهري الذي تتهاوى أمامه كثير من المنشآت: هل يُقاس الأداء بدرجات الرضا الشخصي، أم بمعايير الأداء الموضوعية والإنجازات الموثقة؟

لقد أظهرت تجارب المنشآت الناجحة أن الكفاءة الحقيقية لا تتغير بتغير الإدارات، بل تظل ثابتة كالجبل الراسخ. فالموظف الخبير ليس مجرد رقم في سجل الموظفين، بل هو مستودع حي للمعارف والتجارب، وسجل حافل بالدروس المستفادة، وخريطة طريق لتجنب الأخطاء السابقة. إنه الذاكرة التنظيمية الحية للمؤسسة، والشاهد على تطورها، والحارس لتراثها المهني.

والخسارة هنا ليست رقمية تُحسب بتكاليف التوظيف والتدريب فقط، بل هي خسارة استراتيجية تشمل فقدان المعرفة التراكمية، وضياع الخبرات المتخصصة، وتآكل الذاكرة المؤسسية، وانحسار الروح المعنوية للعاملين الملتزمين.

إن العدالة الإدارية لا تقتصر على منح المكافآت المادية - إن وجدت - بل تمتد إلى الاعتراف بالفضل، وصون الكرامة المهنية، وحفظ الحقوق المعنوية، وتوفير البيئة الداعمة للنمو والاستمرار. الإدارة الحكيمة هي التي توازن بين متطلبات التجديد وضرورات الحفاظ على الخبرات، بين متطلبات التطوير وأهمية الاستفادة من تراكم الخبرات.

وفي الختام، يجب أن ندرك أن المدراء يأتون ويذهبون، تتبدل تحالفاتهم وتتغير استراتيجياتهم، لكن الكفاءات المؤسسية الحقيقية تبقى كالشامخات الأصليات ومصدر موثوق، شاهدة على تاريخ المؤسسة أو الشركة، حاملة لروحها الحقيقية، وضامنة لاستمرارها في ظل المتغيرات.

فاحترام الخبرة ليس مجرد مجاملة عابرة، بل هو استثمار في المستقبل، وتأمين للاستقرار، وحفاظ على الهوية، وضمان للنجاح المستدام.