آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

”ديلما“ أو أصداء من الماضي الغابر

هناء العوامي

جزيرة تاروت، 1850 قبل الميلاد.

”أرجوكِ يا نجمة الصباح، احميهما.... أعيديهما إليَّ سالمين“، فكرت ”ديلما“ في ذلك بينما قادتها قدماها دون أن تشعر إلى معبد ”عشتاروت“، لا لتصلي، بل لترى البحر من أعلى موقع في المدينة، وكأنها تأمل أن ترى السفينة التي أخذتهما بعيدا عنها.. إلى مجان.

لاحظت النقوش غير المكتملة على جدار المعبد الشرقي فارتجفت... هذه الأعمال التي لم تتم لأن النوخذة الذي كان يدفع أجور النَقّاشين غرِق في البحر... النقوش هنا أكثر بساطة وأقل في التفاصيل من تلك التي تجدها في المعابد والقصور في ”عيلام“ و”أكد“ و”ملوخا“، لكن هذا يعطيها طابعا معماريا أكثر بساطة ونظافة، هي لم تزر تلك الحواضر من قبل ولم تر تلك الصروح لكن هذا ما أخبرها به ”ندار“ قبل سفره.

المعابد والقصور هناك هي كذلك أكثر عددا وأكبر حجما.. لكن هذا يجعل هذا المعبد أكثر تفردا حيث أنه لا يوجد الكثير مما يشبهه بالجوار، وقد يعيش المرء ويموت قبل أن يرى مثيلا له

خلال حياته، ما أعطى للمعبد هيبة ورهبة خاصة لمن يعيش في الجزيرة أو يزورها، حيث يشار إليه باسم ”المعبد“ وحسب، دون حاجة إلى ذكر اسم طويل كعادة المعابد الكبيرة في ذلك الزمن في الحواضر المجاورة، حتى الطقوس الدينية هنا أكثر بساطة واختصارا، ما يترك متنفسا أوسع للأحاديث الاجتماعية بعد الصلاة.. وقد اكتسبت الجزيرة الصغيرة اسمها منه.

ماذا كان اسم ذلك النوخذة؟ ”أمارو“؟ ”سومو“؟ هي لا تتذكر، وكانت حين تريد تذكر اسمه كان زوجها يذكرها به، لكنه ليس هنا الآن، أنه يمخر عباب البحر

كما فعل النوخذه، هل سيغرق مثله؟ أطرقت ناظرة للبحر متكئة على سياج حجري فبدا المعبد من خلفها كعبء تحمله على كتفيها، ”أين أنت يا نَدار؟“، رأت سمكة تقفز من البحر ثم تحطُّ إليه ورغوة بيضاء تثور حولها كمخيض اللبن فابتسمت.

قررت أن تصلي على عجل، بما أنها هنا، ثم تعود للاطمئنان على ”تارا“، ابنتها الصغيرة التي تركتها نائمة في البيت، لقد أجهضت عدة مرات، كما وُلد لها طفل ميت مرة، وتوفي بكرها عن سنتين، والآن ابنها الوحيد بعيد في البحر.. لقد كاد يقتلها الكمد حين مرض مَرَضًا شديدًا في سنواته الأولى، لكن العطار السومري قدم لها وصفة أعشاب شفته، وهي الآن تعاني من نفس شعور الفزع من فقدانه لكن ما من عطار سوف يعينها الآن، ولو أن إحراق بعض البخور في المعبد قد يريحها قليلا.

قابلت في طريق عودتها عجوزًا سألتها عن نسبها حتى الجد السابع، سألتها عن فلانة بنت فلان، وعن فلان وفلان، ومن يشبهها من الجيران! ويبدو أنها اكتشفت لها عددا لا بأس به من الأقارب البعيدين أكدت بما لا شك فيه أن لها بهم صلة قربى ما..

وحين رأتها ابنتها قادمة من بعيد، غَرفت لها بعض الماء في كأس من النحاس من الجرة الفخار في ركن البيت... وجرت لتقدمه لها، مما أدى إلى انسكاب نصفه على ملابسها والأرض.

قابلتها الأم بابتسامة شغوف، وقبلتها بلهفة، ثم قدمت لها بعض ثمار اللوز التي ابتاعتها في طريق العودة، لقد تأخرت في المعبد أكثر مما كانت تنوي، بعد أن سمعت الخطبة المرتجلة للكاهن الأصلع ”أشرام“ وهو يتكلم عن أهمية الصبر، وكيف أن صبر ”عشتاروت“ في مَخاضِها قد وَلَّدَ الكون، وكيف التوى الحديث كما لو كانت يداه الملوِّحتان

المثقلتان بالخواتم المُرَصّعة بالعقيق والفيروز واللؤلؤ قد لَوته لِيَحثَّ النساء على التبرع بحليهن عَلَّ الآلهة تُسَخِّر الرياح لتدفع قافلة السفن التي تحمل رجالهن بقوة ”إنزاك“ وحنان ”بانيبا“ وتدفع عنهم شر القراصنة من البشر والأرواح الشريرة... ثم ختم حديثه بشكل ما ليسمع الحشد الذي بدأ ينمو ما لا يمل سماعه عن حب الالِهة لأرض ”دلمون“ أرض الخلود والنقاء والطهارة، حيث فرد الجميع أيديهم، اليمنى أولا ثم اليسرى، نحو السماء، وحركوها بشكل دائري وهم يتلون بصوت واحد صلاة قصيرة: ”يا أمنا العذراء.. احمي أولادك، احرسي الثمر وسخري الرياح واطردي الشر“.

كانت ملابس الكهنة والكاهنات بيضاء، حيكت حديثاً من أنسجة حرير وكتان قدمها تاجر فينيقي للمعبد كقربان قبل دورتي قمر.. وفي طريق خروجها من المعبد ألْفَت كاهناً أكثر نحولا من الأول، وحليق الرأس هو الآخر، كما هي حالهم جميعاً، جالسا على درجات المعبد البيضاء يداعب وتراً منفرداً مشدوداً على قطعة مزخرفة من الخشب، ويقصر بيده الأخرى طول الوتر الوحيد بمقدار ثم يرفعه.. وتناغم اللحن الذي يصدره مع عبق البخور.. كليهما هادىء ناعم قد تمر ولا تلاحظه، لكنك ستفتقده إن غاب.

في مركز محراب المعبد في القاعة الكبرى تمثال من الذهب الخالص لـ ”عشتاروت“ على قاعدة من اللازورد، يحفّ بها تماثيل الآلهة الأخرى من الفضة. وفي الساحة الخارجية المفتوحة يقف منتصبا تمثال طويل نحيف يحاكي نحافة الراهب العازف على مقربة منه لإله لا تعرف اسمه، يناهز طولها هي مرتين، شيد من الحجر الأبيض على قاعدة حجرية دائرية واسعة من الحجر نفسه، وهو يُستعمل لمعرفة الوقت أكثر منه للصلاة، من خلال ظِلِّه على الأرض.. وقد لمَحته في طريق عودتها لترى الوقت فرأت ظل سرب من الطيور حلَّق فوقه. كان النسيم عليلا، وكل ما أرادته هو ظل يقيها الشمس الساطعة فوقها، وأن يلتم شمل عائلتها مجددا لتشعر بأنها لا يمكن أن تكون أكثر سعادة..

الظِّل ستجده، وستجلس تحته تصنع السِّلال من الخوص تُضَفِّره بأشكالٍ وأحجام مختلفة، تشغلها عن التفكير بأن السفن تغرق أحياناً. بيتها من الطين، مكون من غرفتين واحدة للنوم مفروشة بحصير صنعته بنفسها، والأخرى تحوي التنور الذي تَخبِز فيه أو تشوي السمك، مع بيت خلاء في الخلف، وأَمامَهُ السّاحة التي تصنع فيها سلالها، مسورة ومسقوفة بسعف النخل.

هي تسير إلى السوق كل ثلاثة أيام لتبيع سلالها وتبتاع في طريق عودتها بعد انتصاف النهار بقليل شيئا من السمك الطازج أو اللحم المجفف وكذلك بعض الحبوب والمحاصيل الزراعية المحلية. تسير حاملة في يدها سلالها الواحدة بداخل الأخرى وبيدها الأخرى مروحة يدوية من الخوص المجدول المثبت بربطه على عصا صغيرة، تقي بها عينيها من الشمس إن أزعجتها، لكنها تستظل بالنخيل والأشجار أغلب الوقت.

لو تجولتَ في السوق فسترى مهرجاناً من البضائع المختلفة، التي حملتها السفن من الهند والسند وأقاصي الشرق، كما من ”عيلام“ وبلاد الرافدين و”مجان“ وغيرهم، ستجد الحرير والكتان والبخور، واللِّبان والمر، كما اللؤلؤ والتوابل وغيرها، ثمة طريق ترابي ممهد تُنقَل هذِه البضائع عبره من الميناء بواسطة عربات تجرها الخيول.. وقد يرافقها بعض الفرسان للحراسة. تلتمع أسلحتهم البرونزية في الشمس...

سمعت ”ديلما“ من ثرثرة جاراتها أنه توجد خلف البحار ممالك لديها عدد كبير من الفرسان، بل إن بعض من علت رتبته منهم، يملك أسلحة من معدن رمادي فضي، ولكنه أقوى من الفضة، أرسلته لهم الآلهة من السماء لتنصرهم على أعدائهم، يسمونه الحديد، لكنها مقتنعة تماماً أنه مَحض أسطورة من الخيال، أو كذبة لتخويف الأعداء وإيهامهم بحظوة من يملكه عند الآلهة، لكن جارتها ”هترا“، تلك التي تملك بقرة وتقايضها الحليب بالسلال، والتي تظهر لِثّتها العليا كلما ابتَسمت، مقتنعة بتلك الخرافة*.

وإذا رأيتَ تمثال ”إنكي“ البرونزي الشاهق من بعيد فقد تجد نفسك دون وعي متجها إليه، إذ أن له جمالا خاصّاً قد يبهرك حتى لو كنت رأيته كثيراً من قبل، فلو اتجهت نحوه فهذا يعني أنك متجه إلى سوق السمك، حيث ستجد أصنافا مختلفة بأسعار زهيدة، لأن الباعة يأملون أن ينفد بينما هو ما يزال طازجاً.. وهذا ما يحدث أغلب الأحيان، فالجميع يبتاعه.

بالأمس عرَّجت في طريق عودتها على ”قيطان“ الإسكافي، لتقايضه خفين جديدين لها ولابنتها مقابل بعض السلال التي صنعتها خصيصاً له، مما يحتاجه في صَنعته وفي عرض بضائِعه.. والآن هي تفكر بضيق أن الخُفّ يَبدو أَثقل من خفها القديم، ولكن ربما فقط لأنها لم تعتد ارتداءه بعد. وتوقفت كالعادة عند بائع الأقمشة رغم أنها لا تحتاجها. لم يكن ثمة جديد عنده فانصرفت، لكنه لاحقها كعادة الباعة محاولاً إغراءَها بالشِّراء، فَوعدته كاذبة بالعودة حين وصول البضاعة الجديدة.

وتكرر الأمر نفسه عند ”ريموم“ بائع الحليّ والفضيات. ولو أنها توقفت في اللحظة الأخيرة لتبتاع منه مِشطاً مزخرفاً من النحاس.

كذلك كانت ثمة امرأة تصنع تماثيلاً صغيرة من التمر، وتبيعها في السوق، يلعب بها الأطفال حيناً ويأكلون منها كلَّما جاعوا، تثِق ”ديلما“ في نظافتها، وقد ابتاعت منها واحدا لابنتها لَفَّتهُ لَها بقطعة بيضاء نظيفة من الكتان وربطته بشريط من الخوص.

يعتقد الدلمونيون - لحسن حظ المرأة وأطفالِهم - أن تلك التماثيل تجلب البركة والحظ الحسن للبيت، ولذا فهم لا يرفضون أبداً جلبها لهم، لقد اختارت لابنتها هذه المرة واحداً منكَّهاً بالزنجبيل والقرفة مُرصّعاً بِحَبتي هال مكان العينين.

كان دأب ”ديلما“ كلما اشتكت ”تارا“ من غياب والدها أن تبتاع لها أحد هذه التماثيل لتعلب معها وتحدثها وترجوها أن يعود من غاب من أهلها سالمين.

أما هي - الأمّ - فحين توجهت لبيتها وجدت نفسها تمر عبر طريق الميناء، كان مرفأ ديلمون يغص بالسفن، وقد حجبت أشرِعتها الشمسَ الغاربة، يومًا ما سيعود ”ندار“ و”تارو“ على إحدى هذه السفن.... كانت أشرعة السفن التي لم يفرغ البحارة من طيها تخفِق مع كل هبة نسيم كخفقان قلبها.

كان يمكن لـ ”ندار“ أن يَعدَّ لها أكثر من خمسين نوعا من السفن، بينما لا تعرف هي سوى أن أكبر السفن مخصصة لِنقل المؤن والبضائع من وإلى الحواضر البعيدة، وأصغرها للصيد واستخراج اللؤلؤ. وهي لم تركب سفينة كبيرة قط، فقط بعض القوارب التي كان ”ندار“ يحركها بمجدافين.. هي معتادة على التنقل مشيا على قدميها، وفقط في يوم زواجها ركبت عربة تجرها الحمير.. وكانت العربة مزينة بسلاسل من الفضة والنحاس الأحمر. ولها ساتر من قماش ثقيل ملون يحجب الشمس فوقها، وكانت هي تمسك بكأس الفِضّة الذي شربت منه حليب الماعز المحلى بِعصارة التمر هي و”ندار“ بعد أن قرأ عليه كاهن المعبد صلواته.

قطع تأملاتها مشهد غريب غير مألوف، إذ رأت عجوزاً تستظِّل ببعض البضائع التي تم تفريغها تجلس القرفصاء تتأمل حركة الميناء، في تفريغ وشحن البضائع، ولف الأشرعة وحركة القوارب الصغيرة من وإلى السفن الكبيرة، وزعيق النوارس المحلقة فوق هذا كله وكأنها تشرف على العمل، بَدَت العجوز مستمتعة بالمشهد، وهي تحمل مروحة يدوية من الخوص لم يبد لها أي داع مع نسيم البحر المالح المنعش الذي كان يهب من جهة السفن مختلطا بروائح السمك والبهارات والخشب المبتل، مع أصوات أمواج البحر وضجيج العمل الذي لم يكن صاخباً إلى هذا الحد من تلك المسافة.

بدا لـ ”ديلما“ ما تفعله تلك المرأة معقولا تماما بعد أن فكرت فيه، حتى أنها فكرت أنها كانت لِتنضمّ لها لولا أن لها بنتاً تنتظرها في البيت...

”تارا“... والتي أصبحت فجأة مؤخراً تعاني من الكوابيس وتستيقظ صارخة: ”لا تقتليني أرجوكِ“، بصعوبة فهِمَت ”ديلما“ أن ابنتها تشك بأنها قد تضحي بها في مذبح المعبد لكي تضمن عودة ”ندار“ و”تارو“ سالمين، ”إذا لم يعودا فهما الخاسرين“ قالت الأمّ.

احتضنتها ”ديلما“ وهي تردد "أنا لن أفقِد ابنتي أبداً.. أبداً...

”تارا“.. من أين تأتين بهذه الأفكار؟ أمكِ لن تتخلى عنكِ أبداً ".

* تدور أحداث قِصتنا في العصر البرونزي، حيث كان الحديد عنصراً نادرا يجلَب مِن النَّيازِك، ومن الواضح أن بطلة قصتنا لم تره قط.