آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

الوطن فكرة

محمد يوسف آل مال الله *

من حبّ المكان إلى صناعة الوعي…

هل الوطن هو الأرض التي نعيش فوقها؟ أم هو الفكرة التي تعيش فينا؟

بين تراب المكان وحدود الوعي، هناك وطن آخر لا يُقاس بالكيلومترات، بل يُقاس بمدى حضورنا فيه؛ حضورًا بالعمل، بالمسؤولية، وبالإيمان بأننا جزء من شيء أكبر من أنفسنا.

الوطن في جوهره ليس خريطة ولا علمًا ولا نشيدًا فحسب، بل هو فكرة تولد في داخل الإنسان: فكرة الانتماء، والشعور بالمسؤولية، والرغبة في الإسهام والعطاء. إنّه حالة من الوعي تجعلك ترى أنّ كل خطوة تطويرية في حياتك هي في الحقيقة خدمة غير مباشرة لوطنك. فمن يزرع فكرة جديدة، أو يقدّم عملاً مخلصًا، أو يطوّر من نفسه، يرفع وطنه قبل أن يرفع اسمه. لذا يقول جي إف كيندي، رئيس سابق للولايات المتحدة الأمريكية: ”قبل أن تسأل ماذا يعمل وطنك لك، عليك أن تسأل ما الذي ستعمله لوطنك“.

إن كثيرًا من الناس يتحدثون عن حب الوطن وكأنّه شعور لحظي يشتعل في المناسبات، بينما الحقيقة أنّ حب الوطن سلوك مستمر لا يحتاج مناسبة. عليك أن تعمل بإتقان، أن تقول الحق، أن تتعامل بأمانة؛ تلك هي صور خفية للوطنية اليومية التي لا تُرفع على لافتة، لكنّها ترفع منسوب الوعي العام.

حين نقول إنّ «الوطن فكرة»، فإنّنا ندعو إلى أن يتحول مفهوم الوطن من دائرة العاطفة إلى دائرة الوعي؛ من ”أحبُ وطني“ إلى ”أبني وطني“. فالوطن لا يُصنع بالكلام الجميل، بل بالفعل الجميل. فالوطن مشروع تنموي يبدأ من تطوير الذات؛ لأنّ الإنسان الذي يُصلح فكرته عن نفسه، يُصلح فكرته عن وطنه. ومن يرى في نفسه قيمة، لن يقبل لوطنه إلّا أن يكون في أبهى صورة.

الوطن فكرة تنمو حين نعمل بضمير، وتذبل حين نكتفي بالشعارات. وما لم تتحول هذه الفكرة إلى وعي وسلوك، سنبقى نعيش في وطنٍ جغرافي، لا في وطنٍ وجداني. لكن حين نستيقظ كل صباح لنفعل شيئًا، صغيرًا أو كبيرًا، يجعل هذا المكان أفضل مما وجدناه، عندها فقط نكون قد فهمنا معنى الوطن الحقيقي.

فالوطن فكرة، لكنّها ليست فكرة عابرة، بل فكرة تُصنع منها الحضارات. فإذا أردت أن تبني وطنك، فابدأ من حيث يبدأ كل بنّاء عظيم: من فكرة في وعيك، تتحول إلى عمل في حياتك. فبين حدود الجغرافيا وحدود الوعي، هناك وطن آخر لا يُرسم على الخريطة، بل يُبنى في داخل الإنسان، في فكره، وضميره، وطريقته في النظر إلى الحياة.

الوطن في جوهره ليس مجرد مساحة ترابية أو انتماء وراثي، بل هو فكرة وعي ومسؤولية. إنّه إحساس داخلي يجعلك تؤمن بأنّ وجودك ليس صدفة، وأنّك جزء من منظومة أكبر تستحق أن تساهم في بنائها. حين تفكّر بهذا الشكل، يتحول كل عمل تقوم به إلى لبنة في بناء الوطن، مهما كان صغيرًا.

كثيرون يتحدثون عن حب الوطن، لكن القليل فقط يعيشونه فعلاً. فالحب الحقيقي لا يكون في الخطابات، بل في السلوك اليومي. أن تتقن عملك، أن تلتزم بالوقت، أن تقول الصدق، أن تحترم القانون، أن تزرع أملاً في قلب محبط، كل هذا حبٌّ للوطن بصورته العملية. فكل مَنْ يُصلح في نفسه شيئًا، يُصلح في وطنه جزءًا.

حين نفهم أنّ ”الوطن فكرة“، سنكفّ عن انتظار من يبنيه لنا، وسنبدأ ببنائه داخل وعينا وسلوكنا. فالوطن لا يُصنع بالشعارات، بل بالضمير الحي، وبالنية الصادقة التي ترى في كل خطوة تطويرية طريقًا لخدمة الجميع.

نحن لا نحمي الوطن بالكلمات، بل بالوعي. ولا نُكرّمه بالاحتفالات فقط، بل بأن نكون صورة مشرقة لما نحب أن يكون عليه وطننا، حينها يصبح كل واحدٍ منّا وطنًا يمشي على الأرض. فالوطن فكرة، لكنّها الفكرة التي تُنبت حضارة، وتُوقظ الإنسان في داخلك. وما من بناءٍ أعظم من أن يبدأ الإنسان ببناء وطنه في نفسه أولاً.