آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

من عبق الماضي: الغسيل اليدوي ”طقس متعب ومقدس“

حسن محمد آل ناصر *

في زمن لم تعرف أو لم تصل للبيوتات الغسالات الكهربائية أو بالأصح لم تصل لجداتنا وأمهاتنا تلك التقنية ولا المنظفات الصناعية ”الصابون“ ولم يكن غسيل الملابس ”غسالة كهربائية“ بضغطة زر ولم تكن أكوام الثياب تذهب طائعة إلى دورة مياه كهربائية، لكنها كانت طقسا يوميا شاقا يحمل في تفاصيله جهد وصبر جداتنا وبناتهن، كانت النساء هن عماد النظافة وأيقونة الصبر يحملن طشت الملابس فوق رؤوسهن ويخرجن منذ الفجر نحو العيون القريبة من الأحياء.

في الماضي البعيد لم تكن هناك مواد التنظيف تشترى من أرفف المتاجر لكنها تجمع من طبيعة الأرض ومن سخاء البر فكانت شجيرات ”الشنان“ البرية تنبت في الرمال تقطف وتجفف أوراقها وتدق حتى تصبح مسحوقا يستخدم في الغسيل، وشجر العراد ذو اللون الأبيض يجفف ويطحن وهذا بدلا من الصابون، أما الطين فكان يؤخذ من أرض صحراوية معينة ”طين أبيض“ ناعم ينظف به ما استعصى على غيره، وكذلك الحرض تلك الحبوب التي تقطف من أشجار برية تعرف بمرارتها لكنها فعالة في تنظيف الأقمشة.

توضع الثياب في طشت أو إناء كبير عميق وتنقع وتفرك بعناية وتعصر بين اليدين بعزم فتتطاير قطرات الماء بين الجدات ثم تنشر لتجف في وهج الشمس ويحرصن على فردها وتسويتها لتعود كما كانت قبل اتساخها، وفيما يعرف بالملابس الرقيقة أو المنسوجة من خامات ناعمة لا يستخدم لها العصر وبالتالي تترك لتجف وتفرد باليد حتى تستعيد شكلها دون أن تصاب بتجعد أو تشوه وبعدها ترش بالعطور وتبخر وتحفظ في أماكن مرتبة ومخصصة بعناية وعطر.

الغسيل لم يكن مجرد عمل منزلي كان مناسبة يومية تنظم لها حركة الأسرة حيث تمضي النساء إلى العيون وما أكثرها في الماضي ”عين ساداس وعين الشرابية وعين السدرة وعين أم ريشة“ وهذه العيون داخل نطاق العمران القديحي وأمثالهن كثيرة في منطقة القطيف ك ”عين العودة“ بالدبابية، وهن يحملن الطشوت فوق رؤوسهن في مشهد يعج بالحياة والكدح والتعاون وتسمع في أزقة القرى أصوات ضرب الثياب على الحجارة وضحكات تتخللها أنفاس متعبة.

كم من أم كسرت الظهر وهي تقف ساعات تغسل وتفرك وتهمس بدعوات لأبنائها؟! وكم من جده حملت عبء الطشت حتى عجزت الركبتان؟! لكن بقيت اليد قوية والقلب دافئ، أجل في كل طشت ارتفع فوق الرأس حكاية تعب وأمومة، وفي كل ثوب نفض على حافة العين رسالة حب لا تبهت، وفي كل غترة وشماغ رش عليه عطر العود له عبق من ماض نقي وصاف.

ولئن توفرت اليوم آلات وتنظيف كيميائية وأنواع لا حصر لها من المنظفات وأصبح الغسيل في دقائق تترك الثياب في الغسالة وتسحب بعدها جافة أو شبة جافة ثم تنقل إلى النشافة أو تكوى بكبسة زر، تغير الزمن لكن بقيت الذكريات تحمل في الضمائر وبين الروح، تغيرت الأدوات وبقيت القيم تلك الجدات والنساء اللاتي وقفن أمام العيون وتحت الشمس وتحت حمل السنين حفرن لهن مكانا في ذاكرة الاحترام والتقدير.

فإننا لا نزال نذكر أولئك النسوة بمزيج من الحنين والانبهار والخجل، وأن تعبهن كله كان يواجه بابتسامة دون شكوى، تعب الأمهات لا يقاس بمقدار الجهد لكن بما وضعنه في كل حركة من حب وفي كل طشت من صبر وفي كل نشرة من دعاء، لقد غسلن الملابس بيد ومسحن الدموع بالأخرى وربين أجيالا في عز الحاجة وقلة الوسائل، فكل ما نملكه من راحة اليوم هو امتداد لتعبهن القديم، فمن كانت تجيد تنظيف الثياب يوما أجدر بها أن تظل بيضاء في قلوبنا ما حيينا، فاليوم الأقمشة تنظف بالغسلات لكن كانت أمهاتنا أياديهن تغسل القلوب قبل أن تجف الثياب.