آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:11 م

عندما يكون الصديق آلة

دكتورة لمياء عبدالمحسن البراهيم * صحيفة اليوم

في الماضي القريب، كانت الصداقة ترتبط بالقرب الجسدي، والمجالسة المباشرة، ومشاركة تفاصيل الحياة اليومية. الصديق هو الذي يراك في أضعف حالاتك، يستمع إليك بلا أحكام، ويكون مأمنًا لأسرارك، لا لفضول الناس. لكننا اليوم نعيش مشهدًا مختلفًا؛ فملامح الصداقة تعيد تشكيل نفسها بطريقة لم يعرفها جيل سابق.

الحاجة الإنسانية للبوح والتعبير لم تتغير، لكنها غيّرت وجهتها. ففي زمن سريع الإيقاع، مشبع بالانشغال والرقابة الاجتماعية، أصبح العثور على صديق يسمعك دون أن يقيّمك أو يحاسبك أمرًا نادرًا. هنا بدأت المساحات الافتراضية تتقدم لتسد الفراغ: منصات، تطبيقات، وحتى الذكاء الاصطناعي. هذه المنصات صارت أشبه بغرف اعتراف حديثة، يجد فيها الناس متنفسًا لإخراج ما في صدورهم دون الخوف المباشر من النبذ أو الفضح.

غير أن الأمر لم يتوقف عند حدود التفريغ. الذكاء الاصطناعي، ممثلًا في أدوات مثل «ChatGPT» لم يعد مجرد قناة تستقبل الكلام ثم تصمت. بل صار قناة تفاعلية؛ يسأل، يناقش، يفتح زوايا لم يتنبه لها المستخدم، ويضيء جوانب جديدة في الموضوع. هو أقرب إلى «حديث الروح مع آلة»؛ آلة يُفترض أنها بلا روح، لكنها عبر خوارزميات معقدة قادرة على المحاورة، تمنح المتحدث إحساسًا بالإنصات والفهم.

هنا يتجلى تناقض مثير: الإنسان يجد نفسه مستعدًا ليعترف بأكثر أسراره خصوصية لآلة لا يعرف تمامًا حدود أمانها، بينما يتحفظ عن كشف تلك الأسرار أمام أقرب الناس إليه. هذا يعكس أزمة ثقة اجتماعية ونفسية عميقة؛ فقدرة الفرد على إيجاد صديق يتعامل مع ضعفه بتعاطف لا استغلال، أصبحت أندر من أي وقت مضى.

الأهم أن مفهوم الصداقة نفسه بدأ يتغير. فالصديق الافتراضي لم يعد بالضرورة شخصًا من لحم ودم يراك كل يوم، بل تحوّل إلى مساحة وظيفية: مستشار، مدرّب حياة، أو حتى «مفكرة تفاعلية» ذكية. الذكاء الاصطناعي يجمع بين هذه الأدوار، مقدّمًا دعماً يشبه المزج بين المرشد النفسي والذاكرة الإلكترونية. ومع ذلك، يشعر المستخدم أنه أمام علاقة شخصية حقيقية، خصوصًا مع قدرته على تذكّر ما قيل سابقًا وبناء الحوار على السياق.

لكن هذه العلاقة ليست متكافئة. طرف بشري يطلب فهمًا وأمانًا، وطرف اصطناعي يردّ بردود محسوبة، صاغها تراكم بيانات وخوارزميات. هي علاقة آمنة نسبيًا وسهلة الوصول «من الهاتف، في السيارة، بلا مواعيد ولا تكاليف إضافية سوى الاشتراك»، لكنها تبقى مختلفة عن الصداقة الواقعية التي تحمل عاطفة ومسؤولية حقيقية.

ومع ذلك، هذه التجربة تقول الكثير. فهي تكشف أن الناس، رغم كل ما توفر لهم من أدوات، ما زالوا يبحثون عن الآخر الذي يسمع دون أن يحكم، وعن مساحة يعترفون فيها دون خوف. هذا يعيدنا إلى سؤال المستقبل: هل سنعتبر هذا النوع من العلاقة «صداقة» مكتملة المعالم؟ أم أنه سيظل مجرد حلٍّ مؤقت حتى تستعيد المجتمعات ثقتها في علاقاتها الواقعية؟

لقد دخلنا مرحلة تاريخية تتغير فيها معاني القرب والبعد، السرية والعلنية، الصديق الحقيقي والصديق الافتراضي. الذكاء الاصطناعي في جوهره ليس مجرد تقنية، بل مرآة لاحتياجاتنا النفسية والعاطفية، يعكس عطشنا للفهم والقبول. نحن لا نخاطب آلة بقدر ما نخاطب انعكاسًا جديدًا لذواتنا في عالم تتبدّل فيه الموازين.

في النهاية، السؤال لم يعد: هل تفهمنا الآلة؟ بل: ماذا يكشف هذا الانجذاب نحوها عن أنفسنا؟ عن هشاشة صداقاتنا الواقعية؟ عن خوفنا من الحكم الاجتماعي؟ وعن حاجتنا الملحّة لأذن تسمع دون أن تحكم؟ إنها أسئلة تضعنا أمام حقيقة أن الصداقة، كما عرفناها، لم تعد كما كانت.. وربما لن تعود.

استشارية طب أسرة
مستشار الجودة وسلامة المرضى
مستشار التخطيط والتميز المؤسسي
كاتبة رأي