آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

حين كنّا أنقياء

نازك الخنيزي

في صباحٍ بعيد، فتحتُ النافذة كما لو أنني أفتح بابًا على الذاكرة. لم يكن الضوء جديدًا، لكنه بدا مختلفًا، كأنّه يحمل رائحة زمنٍ ما زال يسكن القلب رغم انقضائه. تسلّل النسيم إلى الغرفة ومعه صدى الطفولة الأولى، تلك التي لم تنتهِ بل غابت قليلًا عن السطح. تذكّرت كيف كان العالمُ يومًا بسيطًا، حين كنّا نرى الله في النسمة لا في الكتب، ونفهم الوجود بالفطرة لا بالتأويل.

كنّا نغلق النوافذ خوفًا على العصافير من البرد، ونفتحها للريح كي لا تُحبس الحرية في بيوت الصمت. كنّا نرى في النملة نبيّةً صغيرة تمشي بثقة الوحي، وفي القمر صديقًا يشاركنا أسرارنا. وكلّما سقط منّا ضرسٌ رميناه نحو عين الشمس نطلب منها بديلًا جديدًا، ونضحك حين نشعر أنها استجابت. لم نكن نعرف شيئًا عن الفلسفة، لكننا كنّا نحياها ببساطةٍ كاملة، كما يحيا الماء نقاءه دون أن يسأل عن مصدره.

في ذلك المدى الطفولي، أستعيد ما قاله جبران خليل جبران في تأملٍ يشبهنا جميعًا:

«كنّا أطفالًا نرتعب إن رأينا حذاءً مقلوبًا نحو السماء،

فنركض لتسويته بخوفٍ طاهرٍ وارتباكٍ جميل،

وكنّا إذا لمحْنا قطعةَ خبزٍ مُلقاةً على الأرض،

أسرعْنا لالتقاطها، نرفعُها إلى مكانٍ عالٍ،

ونُرسلُ معها قبلةَ اعتذارٍ إلى الله.

فأيّةُ أرواحٍ بريئةٍ طاهرةٍ خسرْناها في الطريق؟»

كأنّ جبران لم يكتب عن طفولته وحده، بل عن الطفولة التي تسكن الإنسان قبل أن يشيخ قلبه. ففي كلماته إشارة إلى فقدٍ عميق، لا لسنوات العمر، بل للبراءة التي كانت تعتذر لله بدل أن تبرّر لنفسها.

كبرنا، وصار المطر خبرًا في نشرة الطقس، والقمر مصباحًا بعيدًا، والنملة شيئًا لا نراه. لم يتغيّر العالم، نحن من تغيّرنا حين صدّقنا أن الحكمة لا تأتي إلا من الكبر، ونسينا أن القلب كان يعرف الطريق دون خرائط. نسينا أن المعرفة التي لا تمرّ بالقلب تبقى عمياء مهما ازدحمت بالمنطق.

اليوم، حين أفتح النافذة، أشعر أن الطفولة لا تزال هناك، تُطلّ من الضوء كما كانت، تُذكّرني بما غاب. النقاء لا يكبر، إنه البصيرة التي تُعيد ترتيب المعنى فينا كلما ابتعدنا عنه. هو الوعي الأول الذي يرى الله لا بوصفه فكرة، بل دفئًا يسري في الوجود.

وحين أستعيد جبران مرة أخرى، أفهم أنه لم يكن يحنّ إلى الماضي، بل يحذّر من غياب الروح في زحام الفهم. فكلّ ما قاله عن الطفولة والعصافير والخبز، كان مرآةً لإنسانٍ فقد قلبه في طريق العقل.

إن عدنا إلى البساطة، لن نحتاج إلى معجزات. يكفينا أن نرى في النملة نبوءة، وفي القمر صديقًا، وفي القلب طريقًا لا يضلّ عن الضوء. وكأن جبران يهمس من بعيد:

«ارجعوا إلى طفولتكم، ففيها حريتكم الأولى، وبها تُولدون من جديد».