آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

وجوه لا تنسى: الخطيب الحسيني حسن آل ناصر "ذاكرة تاريخ ومسيرة فكر

حسن محمد آل ناصر *

في ذاكرة كل إنسان توثيق لسيرة شخص أحبه أو عاصره أو مر به مرور الكرام، ولأن أهمية السير الشخصية في حفظ ذاكرة الأمم وتاريخ المجتمع، إذ تسهم في إبراز أثر الأفراد الذين شكلوا ملامح بيئتهم وأسهموا في نهضتها الدينية والاجتماعية، ومن خلال تلك السطور البسيطة أعيد إحياء ما اندثر من سيرة جدي لأبي رحمه الله رحمة الأبرار.

وفي هذا الإطار سأورد ما تيسر من روايات شفهية ومعلومات موثقة نقلها إلّي والدي حفظه الله عن جدي الخطيب الحسيني الملا حسن بن الحاج مكي بن الحاج محمد بن ناصر آل ناصر لتبقى شاهدة على العطاء الإنساني عبر الأجيال، فكانت شهادته الشفوية مفصلة وافية بعض الشيء مما يضيء من جوانب شخصيته ومسيرته.

ولد في بلدة القديح الحبيبة سنة 1331 هـ في زمن كانت ملامح البساطة تغلب على تلك الحياة آنذاك وتتشكل فيه معالم الجيل الأول من النهضة العلمية والدينية في المنطقة إلا ما نذر، نشأ في بيت عرف بالصلاح والعلم وتفتحت مداركه في بيئة عامرة بالمجالس الحسينية اكتسبها من والده الحاج مكي الذي عرف عنه الورع والتقوى ومن المقربين من رجال الدين ومنهم العلامة الشيخ علي البلادي مؤلف كتاب «أنوار البدرين» وهذا النقل سمعه سيدي الوالد حفظه الله عن لسان معاصريه، مما ترك أثره العميق في شخصيته منذ الصغر.

اقترن الملا حسن بزوجته المرحومة المؤمنة زينب بنت علي آل عمران والتي عرفت بخدمتها لأهل البيت وبتقواها وإخلاصها في العبادة والعمل الصالح، فقد كانت رحمها الله مثال المرأة الصالحة تشارك زوجها رسالته الإيمانية وتؤازره في مسيرته المنبرية والتربوية، فكانت له خير معين في حياته وأقرب الناس إليه في فهم طموحه وخلقه.

وقد كانت من المداومات على حضور مجالس الإمام الحسين ، لا تكاد ترى إلا في رحاب المنابر والمآتم وتستنير بعشق الحسين وتأنس بذكره وقد اختارها الله إلى جواره وهي تؤدي صلاة العشاءين فكانت خاتمتها الطاهرة شهادة إخلاص وصدق عبادة رحمها الله رحمة الأبرار وجعل مثواها الجنة مع الصالحين.

رزقها الله ولدين صالحين هما والدي الخطيب الحسيني محمد علي وعمي المعلم رضا آل ناصر، وقد كرس جهدهما للسير على نهج والدهما في خدمة الدين والمجتمع فكانا ثمرة تربية واعية قوامها التضحية والإخلاص.

تلقى جل دروسه الأولى على يد الخطيب الشاعر السيد علي بن السيد هاشم بن السيد علي الخضراوي «1392 هـ - 1352 هـ» وكان أحد أعلام المنبر والأدب في زمانه والذي عرف بفصاحته وقوة بيانه ورقة شعره، وقد كان السيد الخضراوي من أبرز من ترك أثرا عميقا في تكوين شخصية الملا حسن آل ناصر، إذ غرس فيه حب الخطابة وأساليب الإلقاء حيث أكسبه سلامة اللغة وجمال التعبير وحسن الأداء.

ومن خلال ملازمته لأستاذه حصل على نصيب وافر من المعرفة والاطلاع والمنهل على المنهج فنهل من علمه وتأثر بمدرسته في الجمع بين الفكر والعاطفة وبين المنبر والشعر فانعكست هذه الصحبة المباركة على طريقته في الخطابة وعلى مسيرته العلمية والتعليمية والمهنية فيما بعد.

من الجوانب المضيئة في مسيرته رحمه الله اشتغاله بالتعليم والتربية فقد وهب نفسه منذ شبابه لخدمة العلم والمعرفة فكان من أوائل من امتهنوا التعليم في بلدة القديح، افتتح مكتبا لتعليم الناشئة القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم وكان مكتبة كما يروي معاصروه لعله من أكبر الكتّاب في القديح وأكثرها نشاطا.

تخرج على يديه عدد كبير من الخطباء والقراء الذين أصبحوا فيما بعد رموزا على المنابر ومجالس الذكر إذ كان يغرس في طلابه حب اللغة والبيان ويؤكد على نقاء التلاوة وفهم المعاني قبل أدائها، ولم يكن التعليم الديني حد اهتمامه فقط لكن امتدت معارفه إلى علم الفلك والرياضيات وكان ذا اطلاع واسع فيهما، يفسر الظواهر الكونية ويحسب المواقيت بدقة حتى صار مرجعا لمن حوله في حساب الأهلة والفصول، وقد جمع في شخصه بين نور العلم وهدى المنبر فبقي أثره خالدا في العقول والقلوب، وممن تخرجوا على يده من الخطباء منهم السيد طاهر الجراش والسيد حسين الجراش ومن الأدباء الأستاذ الأديب علي بن الشيخ حسين القديحي.

له آثارا علمية وأدبية متنوعة، تنوعت بين النثر والشعر الفصيح والشعبي فكان قلمه امتدادا لصوته على المنبر يجمع بين الفكرة المشتعلة والعبارة الرفيعة وقد ترك وراءه عددا من المؤلفات التي تشهد على سعة معارفه وذوقه الأدبي الرفيع، ومن أبرز مؤلفاته كتابه كشكول ”إشراق الأوراق“ وكتاب ”الزهور الناضرة في العترة الطاهرة“ وكلاهما نال إعجاب العلماء والأدباء حتى حظي بتقاريظ وتزكيات من كبار العلماء منهم العلامة الشيخ آقا بزرك الطهراني وسماحة السيد محمد جمال الهاشمي وسماحة السيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمهم الله جميعا الذين أشادوا بعلمه وأسلوبه ورصانة طرحه.

وكما ألف كتبا مستقلة تناولت سيرة النبي الأكرم محمد ﷺ والإمام علي والسيدة الزهراء عليهما السلام، فجاءت مؤلفاته مرآة لولائه لأهل البيت وعنوانا على عمق ثقافته وإخلاصه في خدمة الفكر الحسيني والرسالي.

ومما نظمه من الشعر الفصيح الذي عبر فيه عن وجدانه الإيماني وارتباطه بالمناسبات الدينية، فكانت قصائده انعكاسا لروحه الوديعة وذائقته الأدبية، أجل كان يرى في الشعر وسيلة للتعبير عن مشاعره تجاه الشعائر والمواسم المباركة ومن شعره في استقبال شهر الصيام:

رمضان أقبل مشرق القسمات
شهر الهدى والفضل والبركات

شهر به تصفو النفوس ويغفر
الله الذنوب ويرفع الدرجات

شهر به نزل الكتاب فكم له
من منه كبرى ومن حسنات؟!

شهر به الشيطان غل وفتحت
أبواب جنة خالق الجنات

كانت تلك القصيدة على امتدادها أنفاسا من روح مؤمنة نقلنا مطلعها لتكون عتبة دالة على صفاء قلب قائلها، جاءت أبياته مضخمة بالإيمان توقر شهر الخير وتفتح فيه أبواب السماء وفي كلمته يتراءى السمو الرمزي للتوبة والصفاء والسكينة فتغدو عباراته صلاة من نور فجعل من الأدب وسيلةً للتعبير عن القيم التي نذر نفسه لها، وارتقى بالكلمة إلى مقام المناجاة.

ومن نتاجه الأدبي أيضا ما نظمه من الشعر الشعبي الذي جسد من خلاله عمق انتمائه للمدرسة الحسينية وصدق مشاعره تجاه رموزها الخالدة، فقد امتاز شعره الشعبي بعفوية التعبير وحرارة العاطفة مستمدا من الوجدان الحسيني روح الصدق والتأثر، وقد اخترت مقطوعة مؤثرة نظمها على لسان السيدة زينب وهي تودع أخاها الإمام الحسين عند رحيلها من كربلاء:

زينب مرت ابلجساد أو شافتهم على الغبرى
نادت والقلب مفطور يا شمامة الزهرا

يخويه احسين لو أكَدر جلست أوياك يا اعيوني
أو كفنتك أو شيعتك أو حطيتك على امتوني

او قبرك لا حفره بيدي ولا اخلى احد دوني
لكن يالأخو اعذرني تراني وهالنسا أسرى

عتبت اوما ايفيد اعتاب والعدوان ما ترحم
عزيز ابقلبي أو غالي واني بحبي إلك تعلم

أشوفك يالأخو ابلتراب سابح في بحر من دم
لو اعداك تتركني جلست ما أردت مسرى

فكانت كلماته أنينا صادقا يستحضر مأساة الفقد وألم الفراق في لوحة شعرية تنبض بالوفاء والحنين، فأغلب أشعاره الولائية تعبر عن رهافة إحساسه وعمق تأمله في المصاب فيصيغ لنا مشاهد بأسلوب يجمع بين الألم المقدس والعاطفة الإنسانية لتبقى قصائده شاهدا على إيمانه الصادق الوجداني لآل البيت .

امتدّ عمره المبارك في خدمة المنبر الحسيني والتعليم الديني، حتى إذا اكتمل عطاؤه، اختاره الله إلى جواره ليلة الاثنين، زهاء الساعة الثانية بالتوقيت الغروبي، في السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة 1389 هـ الموافق 1969 م، رحل بعدما أفنى عمره في ميدان الكلمة والرسالة، تاركا بصمة لا تُمحى في ذاكرة طلابه ومحبيه وقد شيّعه أهل بلدته بقلوب يغمرها الأسى والحزن، يستحضرون ما خلّفه من إرث علمي وروحي في وجدان المجتمع.

وكانت ساعته الأخيرة في حسينية الناصر، حيث أنهى القراءة على سيد الشهداء الإمام الحسين ، فكأنما اختار الله له خاتمة مشرّفة في حضرة الحسين، ليغدو رحيله مزيجا من العبادة والكرامة، وتماما لمسيرة نذرت نفسها للحق والمنبر والولاء.

وقد رُثي بعد رحيله بعدة قصائد عبّرت عن مكانته في القلوب وما خلّفه من أثر طيب في النفوس، ومن أصدق ما قيل فيه قصيدة للشاعر الفاضل والخطاط الماهر علي بن محمد الرمضان الكويكبي القطيفي، الذي عبّر فيها عن وفائه وتقديره للرجل العالم والخطيب المخلص، وسأورد فيما يلي بعضا من أبياتها التي تفيض حزنا وحنينا، وتشهد لما كان له من مقام كريم وسيرة عطرة خالدة:

قضى نحبه «الحسن» الناصر
حليف الخطابة والذاكر

فأحدث في المنتدى فقده
فراغا وقبلا به عامر

رأى في اللقا راحة والبقا
محيط به تعب حاضر

فتلك الحية سبيل الممات
سيبلغ غايتها الغابر

ويا رب موت به راحة
ورب حياة شجا ضائر

وما للألى ذهبوا عودة
كذا يتبع الأول الآخر

وممن رثاه بعد رحيله الخطيب والشاعر الفاضل محمد بن عبد الله آل عبد النبي، الذي عبر في قصيدة شعبية عن وفائه ومحبته الصادقة مستحضرا في أبياتها ملامح شخصيته الزاهدة وعطاءه المنبري، وسأورد فيما يلي بعضا منها، التي تنطق بعاطفة وانتماء بعبارات تفيض حنينا وإجلالا:

خادم رسول الله وآله سر الوجود
«الحسن الناصر» قضى يا دمع له جود

صار القلب مفجوع من قالوا «الناصر»
ملا «حسن» مات واغدا من أهل المقابر

ملا «حسن» خادم الأبرار الأطاهر
مات وجرت مني المدامع فوق لخدود

يستاهل الملا عليه اتسيل لدموع
وايصبر قلبي واقلب كل لحباب موجوع

وأرخ وفاته الأستاذ الشاعر محمد عبد الرسول الزاير بقوله:

القلب بالأحزان فاغر
والدمع بالخدين ماطر

أفلا نؤبن بالقصائد
من لأهل البيت ناصر؟!

«حسن» بحب الآل طاهر
«به له الله غافر»

وردت في بعض كتب مراجع التراجم ونبذ عن حياته ونشأته ومساره العلمي والخطابي، ومن أبرز هذه المراجع كتاب «القطيف وملحقاتها» للشيخ عبد العظيم المشيخص، وكتاب «أفول النجوم» للخطيب الشيخ محمد عبد النبي، وكتاب «أعلام القديح» لوالدنا الخطيب الشيخ محمد علي آل ناصر، وأرجو أن تكون هذه اللمحة الوجيزة مدخلا مباركا للتعريف بسيرته، وأن تنال القبول والاستحسان ويكون لمرور القارئ الكريم همسةُ دعاء وقراءة سورة الفاتحة على روحه الطاهرة جزاء ما قدّم وأفاد.