عندما تصنع الوقاية الفارق
في نهاية القرن الثامن عشر، كان الجدري يحصد الأرواح في أوروبا، ولا علاج له سوى الانتظار أو القدر.
في ذلك الوقت لاحظ الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر أن النساء اللواتي يعملن في حلب الأبقار لا يُصبن بالجدري رغم تفشّيه، لأنهن التقطن عدوى خفيفة تُعرف بـ «جدري البقر» -Cowpox-.
ومن تلك الملاحظة البسيطة وُلد أول لقاح في التاريخ، عندما أخذ جينر مادة من بثرةٍ في يد امرأة مصابة بجدري البقر وحقنها في طفل صغير.
أُصيب الطفل بأعراض بسيطة ثم تعافى، وعندما عرّضه الطبيب لاحقًا لفيروس الجدري البشري لم يمرض.
هكذا وُلدت فكرة «التطعيم» - كلمة مشتقة من اللاتينية -Vacca - أي «بقرة»، ومنها بدأت قصة الطب الوقائي الذي أنقذ البشرية.
اليوم، وبعد أكثر من قرنين، ما زال مبدأ الوقاية ذاته يكتب فصوله الجديدة، خصوصًا مع حملات مكافحة الإنفلونزا الموسمية، التي تمثل أحد أكثر نماذج الصحة الوقائية نجاحًا وأثرًا.
كثيرون يستهينون بالإنفلونزا، ويخلطون بينها وبين الرشح العابر، لكنها في الحقيقة مرض فيروسي معدٍ قادر على تعطيل حياة الفرد والمجتمع.
تُظهر الإحصاءات أن الإنفلونزا الموسمية تصيب ما بين 5 إلى 10% من البالغين سنويًا، وتصل النسبة إلى 30% بين الأطفال.
وفي كل عام، تُسبّب ما بين 3 إلى 5 ملايين حالة شديدة حول العالم، وأكثر من نصف مليون وفاة.
وفي السعودية، تتكرر ذروة الإصابات بين أكتوبر ومارس، وهي الفترة التي تسبق عادة الإجازات والتجمّعات الاجتماعية، ما يجعل الوقاية أكثر أهمية.
أثر الإنفلونزا لا يتوقف عند الصحة فقط؛ فخسائرها تمتد إلى الاقتصاد وسوق العمل والإنتاجية.
غياب الموظفين والطلاب، وزيادة الضغط على المرافق الصحية، وارتفاع الإنفاق العلاجي، كلها تكاليف غير مرئية يدفعها المجتمع من موارده ووقته وجهده.
لقاح الإنفلونزا ليس جديدًا، لكنه يتجدّد كل عام ليتوافق مع السلالات المنتشرة في الموسم.
ففيروس الإنفلونزا يتغيّر باستمرار، ولذلك توصي منظمة الصحة العالمية بتحديث تركيبة اللقاح سنويًا ومتابعة التطعيم حتى لمن تلقّوه سابقًا.
اللقاح لا يمنع الإصابة بنسبة 100%، لكنه يقلّل احتمال العدوى، وحدة الأعراض، والمضاعفات الخطيرة مثل الالتهاب الرئوي أو دخول المستشفى.
كما يحمي الفئات الأكثر عرضة للخطر:
النساء الحوامل، كبار السن، الأطفال، ومرضى الأمراض المزمنة كالقلب والسكري والربو.
وتؤكد الدراسات أن تطعيم الحوامل لا يحمي الأم فقط، بل ينقل الأجسام المضادة إلى الجنين ويمنحه حماية تمتدّ بعد الولادة.
حين يتلقّى الناس اللقاح، لا يحمون أنفسهم فقط بل يخلقون ما يُعرف ب»المناعة المجتمعية»، أي الحدّ من انتقال الفيروس داخل البيئة الواحدة.
هذا المفهوم الطبي البسيط له أثر اقتصادي ضخم:
فكل جرعة لقاح تُقلّل احتمال غياب موظف، وتخفّض الضغط على المستشفيات، وتوفّر تكاليف باهظة كانت ستُصرف على العلاج أو المضاعفات.
بحسب تقديرات مراكز مكافحة الأمراض، يُوفّر كل ريال يُنفق على التطعيم أضعافه في تكاليف الرعاية لاحقًا.
قصة «جدري البقر» لم تكن مجرد حكاية طبية بل نقطة تحوّل في فهم الإنسان للمرض.
فمنذ أن اكتشف جينر أن المناعة يمكن «تدريبها»، تغيّرت نظرتنا للطبّ من ردّ فعل إلى فعلٍ استباقي.
ومع كل حملة تطعيم ناجحة، يثبت المجتمع أنه تعلّم هذا الدرس جيدًا: أن درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج.
ما زال بعض الناس يترددون في أخذ لقاح الإنفلونزا بسبب شائعات متوارثة: أنه يُسبب المرض، أو لا يُفيد، أو أن المناعة الطبيعية أفضل. لكن الحقائق العلمية تؤكد العكس.
حين تصبح الوقاية ثقافة:
إنّ كل مجتمع ينجح في حملاته الوقائية يُثبت أنه مجتمع يقدّر الحياة ويستثمر في صحّته.













