تلك الأيام
كانت الطفولة، ولا تزال، تحمل عقولًا بريئة، صغيرة في حجمها، محدودة في قدراتها، لكنها عظيمة بما تختزنه من جوهر نقي ومضمون عميق.
فوعي الطفل وإدراكه بطبيعته بسيط، لكن قلبه واسع بما يكفي ليملأ العالم حبًا وسلامًا.
ورغم صغر هذه المرحلة العمرية، إلا أنّ الطفولة تفيض طاقةً ونشاطًا، وتزخر بجمالٍ عفوي في التصرفات وردّات الفعل. إنها مرحلة لا تشبه سواها، مليئة بالمغامرات والاكتشافات، ومفعمة ببراءة الشعور تجاه العالم من حولها.
لا تعرف العقول الصغيرة الرقيقة سوى السلام الداخلي، كما الطيور المهاجرة التي توحي في تحليقها بشعور الحب والوئام.
تأمل جمال المشهد حين تحلّق تلك الأسراب معًا في السماء، منسجمة كأنها كيان واحد، تنشد لحن الحرية والحياة.
هكذا هم الأطفال، يجتمعون ويلعبون، تتعالى ضحكاتهم لتشكل أنغامًا خالدة من موسيقى الطفولة. ورغم عقولهم الصغيرة فإنها تجمع ولا تفرق، وتتآلف وتتواصل بعفوية صافية.
يتشاركون الفرح، ويستمتعون باللحظات والمُتع الصغيرة، فيتحول وجودهم إلى لوحة فنية يرسمها النقاء والمحبة.
في مرحلةٍ لاحقة من العمر، تكبر تلك العقول، فتتبدل الصورة، ويختلف المشهد.
نظن أن ما وصلنا إليه هو النضج، لكنه في كثير من الأحيان نضجٌ زائف. فالإنسان العاقل حقًا هو من يزن الأمور بميزان الحكمة، ويمنحها قدرها من الاتزان، لا من الغرور أو الادعاء.
ومع الأسف، كلما كبرت العقول، اتسعت المسافات، وتباعدت القلوب. انفكت لحمة التآلف، وضيّع الناس دروبهم في طرقٍ متوازية لا تتقاطع أبدًا.
عجبًا للصغار كيف يجمعون القلوب، وعجبًا للكبار كيف يفرقونها!
عندما نتأمل ذلك، سندرك أن العقول الصغيرة كانت أصفى وأصدق من تلك التي كبرت.
لكن رغم ذلك، وحين يلتفت أحدنا إلى الماضي، ويستحضر ملامح طفولته، يشعر بشيءٍ يضيء في داخله للحظة، تذكّره تلك البراءة بأنه كان يومًا أبسط، وأن الحياة كانت ممكنة بدون كل هذا التعقيد.
قد لا نستطيع استعادة تلك البراءة كما كانت، لكنها تظل جزءًا منّا، تذكيرًا هادئًا بأن النقاء كان موجودًا ذات يوم، وما زال يستحق أن نحافظ على ما تبقّى منه.
كان التواصل بين الأطفال، لا يحتاج إلى تكلّف ولا تفسير. يكفي أن تلتقي نظراتهم أو تمتد أيديهم الصغيرة ليتشكل بينهم رابط خفي من الفهم والمودة. لم يكن أحدهم يخشى أن يُخطئ أو يُرفض، فالمحبة كانت هي اللغة الوحيدة التي يتحدثون بها. ذلك الترابط الصادق هو ما جعل الطفولة أجمل مراحل العمر، لأن القلوب كانت قريبة، والمشاعر واضحة، والنية دائمًا طيبة.
حين نفقد هذا التواصل البريء مع مرور الزمن، نفقد شيئًا من إنسانيتنا دون أن نشعر.
قد لا يكون الحل في أن نعود أطفالًا كما كنّا، بل في أن نحافظ على ما كان يميز المرحلة من صفاء التواصل وصدق الترابط، فكلما ابتعدنا عن بعضنا، فقدنا شيئًا من دفء الحياة الذي لا يعوّضه عقلٌ كبير ولا خبرة طويلة.
إنّ التواصل بين الناس ليس ترفًا، بل هو حاجة إنسانية وروحية تحفظ توازن القلب وتعيد إليه طمأنينته.
وقد علّمنا ديننا أن الترابط قيمة عظيمة، وأن صلة القلوب لا تقل شأنًا عن صلة الأرحام،
فقال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: الآية 103]،
كما حثنا نبيّنا الكريم ﷺ على التراحم والتآلف بقوله: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد».
ما أجمل أن نحافظ على تلك الروح التي كانت تجمعنا صغارًا، وأن نحافظ على الدفء الإنساني مهما كثرت المسافات وتغيّرت الملامح.













