آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

هل تحتاج فعلًا إلى دراسة جدوى قبل أن تبدأ مشروعك؟

عبد الله أحمد آل نوح *

قبل أن يبدأ أي مشروع ناجح هناك لحظة حاسمة تسبق التنفيذ، لحظة التفكير الهادئ التي تُترجم في دراسة الجدوى. فهي البوابة التي يدخل منها المستثمر إلى عالم الأرقام والاحتمالات قبل أن يدخل عالم التنفيذ والمخاطر. في عالم الاستثمار لا يبدأ النجاح من أول ريال يُنفق بل من أول فكرة تُدرَس بعناية. دراسة الجدوى هي المرآة التي تعكس لصاحب المشروع صورة الواقع قبل أن يخوض التجربة، فهي التي تبيّن له ما ينتظره من فرص أو عقبات وتساعده على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب.

لا تقتصر دراسة الجدوى على المشاريع الكبيرة أو الصناعية فحسب، بل يحتاجها كل من يفكر في استثمار ماله، سواء كان مطعمًا صغيرًا أو متجرًا إلكترونيًا أو مشروعًا عقاريًا ضخمًا، لأن المبدأ واحد: اتخذ القرار على أساس معلومة لا على أساس حماس.

دراسة الجدوى هي تحليل شامل لفكرة المشروع من مختلف الجوانب السوقية والفنية والتشغيلية والمالية والإدارية، وتهدف إلى تحديد مدى إمكانية تنفيذ المشروع وتحقيقه للعائد المطلوب. هي الخطوة التي تسبق التنفيذ والميزان الذي يوزن به المستثمر فكرته قبل أن يغامر برأسماله. وتشمل عادة دراسة السوق لمعرفة حجم الطلب والمنافسة وسلوك المستهلكين، والدراسة الفنية للموقع والطاقة الإنتاجية والمعدات والأيدي العاملة، والدراسة المالية للتكاليف والأرباح المتوقعة، إضافة إلى الدراسة القانونية والإدارية الخاصة بالتراخيص والتنظيم.

وبعد فهم ماهية الدراسة ومكوناتها تظهر أهميتها العملية في عدة جوانب رئيسية. فهي تقلل المخاطر لأنها تكشف التحديات قبل إنفاق المال، وتساعد في اتخاذ القرار بين التنفيذ أو التأجيل أو الإلغاء، وتسهل الحصول على التمويل لأن معظم الجهات لا توافق دون دراسة معتمدة، كما أنها ترسم خطة واقعية تجعل الفكرة واضحة بالأرقام والخطط التنفيذية.

أما العيوب فلا تكمن في الدراسة نفسها بل في طريقة إعدادها ومن ينفذها، فالكثير من المكاتب تبيع دراسات جاهزة تُنسخ وتُعدّل دون بحث ميداني حقيقي. ومن الأخطاء الشائعة المبالغة في تقدير الأرباح وتجاهل التغيرات في السوق أو الاعتماد على بيانات عامة لا تخص المشروع. والنتيجة أن يبدأ المشروع بحماس وينتهي بخسارة لأن أساسه لم يُبنَ على دراسة واقعية بل على تمنٍّ وأرقام غير مدروسة.

اختيار المكتب المناسب خطوة حاسمة في طريق النجاح، فالدراسة الجيدة تحتاج إلى خبرة وصدق وميدان. من المهم التأكد من خبرة المكتب وتخصصه في نوع المشروع، ومعرفة ما إذا كان يعتمد على بحث وتحليل فعلي أم نماذج جاهزة، وكذلك معرفة اعتماده لدى الجهات التمويلية، ووضوح العرض المالي والزمني الذي يقدمه، إلى جانب السمعة والتوصيات من عملاء سابقين.

أما عن تكلفة دراسة الجدوى فهي تختلف بحسب حجم المشروع وتعقيده، ولكن المبدأ العام أن تكون التكلفة نسبة من إجمالي تكلفة المشروع تتراوح بين 1% إلى 3% في معظم الحالات. وغالبًا ما تتناسب التكلفة طرديًا مع حجم وتعقيد المشروع، فالدراسة المالية لمطعم صغير تختلف عن دراسة مشروع عقاري أو صناعي ضخم. والقاعدة أن الدراسة الجيدة لا تُعتبر مصروفًا بل استثمارًا يحمي رأس المال من الخسارة لاحقًا. فالدراسة الدقيقة لا تُكلّف كثيرًا مقارنة بما قد توفره من تجنّب خسائر أو قرارات خاطئة.

بعد أن تُسلَّم الدراسة إلى صاحب المشروع تبدأ المرحلة الأهم، وهي ترجمة الورق إلى واقع. فيُنصح بمراجعة النتائج مع مستشار أو شريك مختص، ثم تقديمها للجهات التمويلية أو للمستثمرين، وبعدها تحويل الدراسة إلى خطة عمل تنفيذية تحدد المراحل والتكاليف والجداول الزمنية، ثم البدء في التراخيص والإجراءات الرسمية وفق ما ورد في الدراسة.

بعض المشاريع تحتاج إلى أكثر من دراسة، خصوصًا إذا كانت الدراسة الأولى مبدئية أو مرّ عليها وقت طويل، فالتغيرات الاقتصادية والسوقية تفرض تحديث الأرقام والفرضيات. كما أن المشاريع الكبيرة عادة تمر بعدة مراحل من الدراسات تبدأ بالمبدئية ثم التفصيلية ثم التشغيلية.

في النهاية تبقى دراسة الجدوى هي البوصلة التي توجه المستثمر قبل أن يبدأ مشروعه. فهي ليست ورقة شكلية بل أداة استراتيجية تحدد مصير المشروع وتمنح صاحبه الرؤية التي تسبق التنفيذ. والمكتب الذي تختاره ليس مجرد جهة تُعد تقريرًا بل هو شريك في بناء القرار. فابدأ مشروعك من الورقة الصحيحة قبل أن تضع الطوبة الأولى، لأن القرار الصائب يبدأ من دراسة جدوى واقعية دقيقة مبنية على علم وخبرة. فالنجاح لا يبدأ من رأس المال بل من العقل الذي يعرف كيف يخطط له.

عضو مجلس المنطقة الشرقية ورجل أعمال