آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

فجوات التعاطف

المهندس أمير الصالح *

ما زِلت أستمتع بقراءة ورصد مفردات السلوك الاجتماعي والبحوث الأكاديمية الاجتماعية ذات العلاقة، وعقد إسقاطات على الواقع للإبحار في كل مجتمع «وداخل كل شركة» اختلطت به أو أسافر إليه، والوقوف على منسوب دقة تلك الدراسات الأكاديمية بالقدر المتاح من الوقت والتجربة.

فمثلًا، لفت نظري حديثًا ظاهرة فجوة التعاطف من أبناء الأثرياء والأغنياء نحو أبناء الفقراء والمعدمين في ذات المجتمع ذي النسيج الواحد أو المتعدد المكونات. وكانت مفردة فجوة التعاطف Empathy gap وتشعباتها وإسقاطاتها ملفتة ومحل تأمل كبير لدي. وهذا الأمر ذكرني بالجملة الفرنسية الشهيرة التي أطلقتها ماري أنطوانيت: ”Qu’ils mangent de la brioche“ - دعهم يأكلون الكعك.

تساءلت بعد مشاهدة عدة مقاطع فيديو في مجال التعاطف «وعدم التعاطف» عن مدى تعاطف الأغنياء مع الفقراء، ومدى تعاطف الفقراء مع الفقراء، ومدى تعاطف الفقراء مع الأغنياء وعامة الناس. وقادني هذا الأمر إلى تصفح دراسة أكاديمية بحثية صدرت عام 2011 م، أجريت في جامعة كاليفورنيا، ومفادها أن الأغنياء المترفين والوارثين للمال أقل قدرة «أو منعدمي القدرة» على التعاطف وفهم احتياجات الآخرين، لا سيما الفقراء، وأقل دقة في قراءة تعابير الجسد العاطفية للآخرين.

يُعزى بعض الباحثين ذلك إلى شعور الأغنياء بالاستحقاق الذاتي العالي، والتركيز الذاتي على إشباع النفس وغرائزها وملذاتها، والانشغال بالأهداف الشخصية في البذخ والشهرة وجلب الأضواء. ولعل هذا يفسر ظاهرة انتشار استخدام ”سناب شات“ في توثيق يوميات البعض.

الثراء عند أغلب الناس، باستثناء أهل التواضع والزهد والتقوى والانضباط، يعمل على خفض مستوى الشعور بمعاناة الآخرين، لا سيما الفقراء أو المهمشين أو متضرري الكوارث الطبيعية «الزلازل والبراكين» وغير الطبيعية «الحروب»، وأن النسبة عند البعض تزيد لمن لديهم ثراء وراثي أكثر ممن اكتسبوا ثراءهم من عرق جبينهم «من العناء إلى الغنى». وصدق بعض العقاريين عند استفسارهم عن مالك العقار المعروض للبيع: أهو وارث أم حارث؟

وينعدم التعاطف من قبل معظم الناس مع الفقير المعدم إذا كان جلفًا وغليظًا وغير لبق وسوقيًّا وكذابًا وشريرًا وغير وافٍ للعهود وجاحدًا وعيارًا ومنعدم المسؤولية وكسولًا وانبطاحيًّا ومتزلفًا وهادرًا لكرامته.

قد يقول أحد القراء الكرام: مقالك هذا ترف فكري، ولا يعير الاهتمام به سوى أصحاب الدراسات الأكاديمية والاجتماعية والتربوية! وأعلق على ذلك بأن المقال من صميم واقع حياتنا اليومية وله دلالات وظيفية واقعية تطبيقية. ولك الخيار عزيزي القارئ أن تجيب بينك وبين نفسك عن الأسئلة التالية:

• من هو الأشد خطورة في تبوؤ المناصب المؤثرة؟ أهو صاحب الثراء الفاحش «الشبعان» أم صاحب الدخل المعدم «الجوعان» أم صاحب الدخل المعتدل «المستور الحال»؟

• في نظرك، هل تعيين مسؤول ثري وارث أو ابن ثري لا يتعاطف مع احتياج الناس الفقراء هو أولى وصمام أمان اجتماعي، أم تعيين مسؤول استحصل ثروته حرثًا ويدرك معنى الحاجة وألم الحاجة وعنده كفاءة علمية؟

• هل القلب يكون أكثر قساوة في حالة كون صاحبه يعشق الثراء حد الجنون، أم أن الموضوع يحتاج إلى تشخيص أكبر؟ وإن كان كذلك، فما طرق المعالجة لضمان عدم انتشار ظاهرة القلب القاسي، لا سيما إذا تحدثنا عن ذلك في الأوساط الوظيفية؟ وهل تجار الأعضاء البشرية أو المخدرات أو الإباحية هم فرع من ذاك الصنف؟

• هل الأكثر خطرًا أن يصبح مسؤولًا عن حياة الناس ومصالحهم ومعاشهم ومصدر رزقهم، داخل شركة أو غير ذلك، شخص أناني مهتم بمحاوره الشخصية ونمو سجل رصيده البنكي الشخصي، أم من يهتم بالجميع ولديه روح الفريق؟

• هل ترى استغلال بعض الأغنياء لبنات الفقراء في التزويج الاعتباطي والشهواني في تمدد أم في انحسار؟

• هل انتشار ظاهرة الهياط «التفحيص/تجارة الجسد» في بعض الأوساط الفقيرة ببعض الدول الآسيوية والأفريقية هو امتداد لظاهرة التكسب والاستعطاء من الأثرياء المحبين لذاك اللون من الهياط؟

هذا المقال قد يفكك شفرة تلقيك، كشخص عصامي، مكالمة مفاجئة وغير متوقعة من رجل فاحش الثراء، التقيته يومًا ما أو تعرف عليك في مجلس معرفة عابرة، ليعرض عليك شراء حصص في إحدى شركاته أو الانخراط معه في صفقة تجارية في مكان ما!

حياديًا، يجب إدراج معيار لقياس الإحساس والتعاطف مع الآخرين لدى كل إداري أو مرشح للزواج أو مؤثر، لسد خلل فجوات التعاطف التفاعلي بين الشخص والمحيط، وتأمين سرعة الاستجابة الإيجابية لدفع أي ضرر أو احتقان، وحوكمة السلوك لأي إداري أو زوج، لضمان أفضل مستوى استقرار إداري داخل البيت أو الشركات والمؤسسات والأماكن الأخرى.

عبادات مثل إخراج الزكاة وممارسة الصوم وأداء الحج تنمي في شخصية ممارسها عدة سلوكيات، منها المواساة للآخرين، والإحساس بآلامهم، والتواضع نحوهم، وتهذيب النفس من التعلق بالمادة، وزيادة جرعة الإحساس بالآخر. ولمن لا يصدق هذه الدراسة، فليسأل ماري أنطوانيت.

شخصيًا، أرفع القبعة للآباء العصاميين الذين بنوا مجدهم وثروتهم بالكدح والصبر والمثابرة، وزرعوا في نفوس أولادهم قيم التواضع والزهد وتلمس آلام الآخرين، وتزكية أنفسهم وأموالهم بالسلوك الحسن والتواضع ومجالسة البسطاء وتجنب الغرور. فلقد ابتُلي أهل الأرض في حواضرنا بتزايد أعداد من يرددون جملة: ”أنت عارف بتكلم مين!“ لفرض جبروتهم وتمرير إرادتهم.

للمهتمين بالدراسة، إليكم إياها في الهوامش [1] 

تنصّل: المقال مرتكز على بحث علمي في السلوك ويجب وضعه في هذا الإطار فقط.