من عبق الماضي: عاشوا بيننا ”مجانين الأزقة والطرقات“
كانت هناك وجوه مألوفة في زوايا البيوتات القديمة بالقطيف وأزقتها الضيقة، كانت هناك في الطرقات شخصيات نخافها، نبتعد عنها، وتارة نضحك معها، أو نضحك عليها، أو نلعب معها. مرت بيننا بالكاد نعرف أسماؤهم أو أسماؤهن، ولا من أين جاءت «كركتر» ذو صفة غريبة حد الدهشة وحد الخوف، لكنه حفر في عقولنا ولم يغب أثره حتى الآن.
تلك الذكريات جعلتنا أحيانًا نبتسم وأحيانًا أخرى نحزن، من تلك الأرواح التي هامت في الطرقات تائهة تحكي بجنونها ما عجزنا عن فهمه نحن الذين ندّعي العقلية النيرة. فالصرخة التي كان أحدهم يدوي بها العالم كانت تحمل وجعًا لا يُبثّ ولا يُلفظ، لكنها تشير بنظرة شاردة نحو أفق مختبئ خلف الستار لا يراه سوى المنكسر نفسه. أجل، كانوا لا يطلبون شيئًا، ولا يؤذون أحدًا، فقط يمشون ويهمسون للأيادي البيضاء التي تخفف عالمهم الخاص.
في بيتنا، وبيت جارنا، وبيت الذي يعقب جارنا، وبيتكم أنتم، نعم، كانوا منا من لحمنا ودمنا، ولكن يا للأسف كنا نخاف الاقتراب منهم. هل كانت نظرة الاستخفاف والاستهزاء هي التي تمنعنا من الاقتراب؟ هل البيئة التي عكست علينا البعد عنهم؟ أو أشكالهم التي توحي برعب؟ أم التصور القاصر منا أنهم وحوش أو ذوو شراسة؟ ولماذا كنا نرميهم بالحجارة؟ سؤال يجر ألف سؤال.
اليوم صورهم لا تفارق مخيلتنا، ونشعر بشيء من الذنب، بشيء من الألم، لأننا لم نكن نفهمهم أو نعطيهم ولو نظرة شفقة أو عاطفة، ونسبر في محيط عالمهم وقصصهم التي أدت بهم إلى الانكسار والخيبة من الحياة. ولم نفكر ما وراء تلك الوجوه وكيف انتهى بهم المطاف بلا وجهة وبلا اتجاه، فقط سائرون مثل المطاردين يبحثون عن الأمان والحضن الدافئ.
هل أصبحوا من عبق الماضي؟ كانوا من ذاكرة الزمان وحكاياته غير المكتوبة. بعد أن أزيلت أكثر الأزقة واختفت الطرقات الضيقة، صرنا نبحث عنهم، نفتقدهم، نفتقد روحنا فيهم، وحتى جنونهم وضجيجهم وصمتهم. كل هذا يعني أننا تأثرنا بتلك الذاكرة وتفاصيلها وبالأماكن وشخصياتها. أين هم الآن؟ صاروا مخفيين، معزولين في المشفى أو البيت، أو يختبئون بعيدًا عن أعين البشر التي لا ترحم المريض. ولكن الحقيقة أننا نحن من نخجل منهم، أو نخاف أن يذكرونا بشيء لا نحب الاعتراف به.
في كل قلب قديم لهم مكان، وأعتقد بأنّ أغلبنا قد عاشر أحدهم أو إحداهن. تختلف الشخصيات بما تفعل، فهناك من يُحرِق ويُشعِل لهيبًا دون قصد، ومن يتمتم كأنه يُكَلِّم ظلَّه الذي يجري وراءه، أو يصرخ لروح كابدها الضياع، أو ينشد لخياله ليعبر عما في نفسه من حسٍّ، كثيرة هي الأفعال وغريبة هي الطباع، لكنها أقرب إلى الصدق. فهل نظرنا يومًا إلى المرآة وتأملنا فيها حنين حكاياتهم التي لا تنتهي؟ هؤلاء الذين كنا نسميهم مجانين لم يكونوا إلا مساكين كسرت قلوبهم، يحتاجون مَن يربت عليهم.













