آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

لستُ مجنوناً

سوزان آل حمود *

تُعد المراهقة جسرًا حافلاً بالإثارة والغموض يمتد بين عالم الطفولة الآمن وواقع البلوغ المعقد. إنها ليست مجرد سنوات عابرة، بل هي فترة ثورة عقلية وعاطفية تتشكل فيها الهوية، وتتفتح فيها القدرات، وتختلط فيها المشاعر. إنها المرحلة التي يبدأ فيها المراهق بالبحث عن ”أناه“ المستقلة، ويصبح عقله أشبه بورشة عمل صاخبة، تُعاد فيها برمجة كل ما تعلمه سابقًا. لكن هذه الورشة، رغم إبداعها، تُطلق أحيانًا شرارات تُربك الأهل وتجعلهم في حيرة من أمرهم، متسائلين: ما الذي يحدث لابننا أو ابنتنا؟

صراعات على حافة الهاوية

يجد الكثير من الآباء والأمهات أنفسهم فجأة أمام كائن غريب، لم يعد طفلهم الوديع الذي يطيع الأوامر. فالمراهق يُصبح كتلة من التناقضات: يريد الاستقلال لكنه يخشى الوحدة، يبحث عن هويته لكنه يقلد أصدقائه، ويطلب الاحترام بينما تتسم تصرفاته أحيانًا بعدم المسؤولية.

تتبلور متاعب الأسرة في ساحات معارك يومية صغيرة وكبيرة:

1. المظهر والاختيارات الشخصية:

بدءًا من لون الشعر وتسريحة اللبس ”الغريبة“ التي يختارونها، والتي قد يراها الأهل منافية للذوق أو التقاليد، مرورًا باختيار الأصدقاء الذي قد يبدو للأهل غير مناسب أو ”سيئ السمعة“.

2. الدراسة والمستقبل: الضغط المتزايد لاختيار التخصص الدراسي أو المهني، حيث يرى الأهل المستقبل من زاوية خبراتهم، بينما يرى المراهق أحلامه وطموحاته التي قد تبدو ”غير واقعية“ في نظر الوالدين.

3. التصرفات والانفعالات: المراهقون يعيشون بانفعالاتهم، فالدماغ الأمامي المسؤول عن اتخاذ القرار والتحكم بالاندفاعات لا يزال قيد التطور. هذا ما يفسر التقلبات المزاجية الحادة، والتصرفات التي تبدو غير عقلانية للراشدين.

تتراكم هذه الصراعات، وتتدهور العلاقة تدريجيًا. يشعر المراهق أن والديه لا يرونه، بل يرون مجرد ”مشروع طفل“ يجب إصلاحه. ويصل الأمر ذروته عندما يشعر أنه لم يعد يُحترم كفرد ناضج. هنا، وتحت وطأة الضغط والإحساس بالوصاية الجائرة، يخرج المراهق عن طوره، ويصرخ تلك الصرخة المدوية، المليئة بالمرارة واليأس: ”لستُ مجنوناً!“

فهم العقل المراهق

بالطبع، هو ليس مجنوناً. إنما هو يمر بأسرع وأعقد مراحل النمو العصبي بعد مرحلة الرضاعة. المشكلة ليست في جنون المراهق، بل في جهل الراشدين بحاجاته التطورية ومراحل نمو دماغه.

العقل المراهق يمر بما يُسمى «بالتشذيب العصبي»

حيث يتم التخلص من الوصلات العصبية غير المستخدمة وتقوية المستخدم منها. وهو يمر أيضًا بنشاط مفرط في ”الجهاز الحوفي“ المسؤول عن العواطف والمكافآت، قبل أن ينضج مركز التحكم «القشرة الأمامية الجبهية». هذا يعني أن المراهق مدفوع بقوة نحو:

• البحث عن الإثارة والمغامرة:

وهذا ما يفسر انجذابه للأشياء الجديدة والمحفوفة بالمخاطر.

• الحاجة الشديدة للانتماء والقبول من الأقران:

وهذا ما يفسر أهمية الأصدقاء على العائلة في بعض الأحيان.

• الرغبة في تكوين هويته الخاصة:

وهذا ما يدفعه لرفض كل ما هو مفروض من الكبار.

لكي نخرج من دائرة الصراع، يجب على الأهل أن يستبدلوا لغة السيطرة بلغة التواصل. عندما يفهم الأهل أن رفض المراهق لا يعني كراهيتهم، بل هو محاولة بائسة لإيجاد مساحته الخاصة، تبدأ العلاقة في التعافي. يجب أن نُدرك أن الإلحاح في تغيير اللبس أو الأصدقاء أو التخصص يُفسره المراهق على أنه تشكيك في عقله وقدرته على اتخاذ القرار، وهذا ما يجعله يصرخ بالرفض العنيف.

الحل يكمن في منحهم مساحة آمنة لتجربة ”الاستقلال الآمن“: وهو السماح لهم باتخاذ قرارات صغيرة «مثل اللبس والأنشطة» والتدخل كمستشارين لا كشرطة في القرارات الكبيرة «مثل المخاطر الحقيقية والدراسة».

حكمة العبور والمرونة الأبوية

إن صرخة ”لستُ مجنوناً“ ليست اتهاماً، بل هي نداء استغاثة من عقل يسعى للنضج.

المراهقة ليست مرضاً يجب علاجه، بل هي مرحلة عبور تحتاج إلى فهم ومرونة.

إن أعظم هدية يمكن للأهل أن يقدموها لأبنائهم في هذه المرحلة هي الثقة والاستماع الفعال. فبدلاً من أن نُحاول ليّ عقولهم لتناسب تصوراتنا، يجب أن نُساعدهم على بناء جسر بين عالمهم الداخلي وعالم الواقع. دعوا المراهق يخطئ أحيانًا في حدود الأمان، ليتعلم المسؤولية، وليكتشف حكمة أن يكون قائداً لقراراته.

ختامًا

الحكمة الأبوية لا تكمن في فرض الرأي، بل في أن نكون نحن المحيط الآمن الذي يعود إليه المراهق بعد كل رحلة استكشاف. تذكروا دائمًا أن الحب غير المشروط والاحتضان الواعي هما خير دليل لاجتياز هذا الجسر بنجاح، وتحويل تلك الصرخة إلى همسة شكر وامتنان.