آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

القراءة في كتاب ”كان الغوص مهنة“

عبد الله حسين اليوسف

قراءة في كتاب ”كان الغوص مهنة.. في الأحساء والقطيف مثلاً“، للمؤلف طاهر بن معتوق العامر، الطبعة الأولى / 1447 هـ / 2025 م.

وهكذا تعددت سُبل الكسب وتنوعت مجالات السعي، لتبقى يد الإنسان عاملة، وجبينه مرفوعًا. ينسج من عرق جبينه قصص الصمود، ويخط على صفحات الأيام حكايات الكفاح المكلل بالأمل.

الحركة الملاحية والتجارية بين الأمس واليوم:

منذ أقدم العصور، عرف أهل الخليج طرق الملاحة، حتى تمكنوا من الوصول إلى سواحل أفريقيا، والهند، والصين. وقد كانوا سادة المحيط الهندي، وأرباب الملاحة قبل الإسلام. وبلغت الحركة الملاحية في الخليج العربي أوجها في العصر العباسي.

أما اليوم، فقد أصبحت الموانئ العربية على الخليج ذات شهرة عالمية، وتُضاهي أرقى الموانئ في العالم. وتعد موانئ المملكة العربية السعودية على الخليج العربي من أنشط الموانئ في الحركة الملاحية والتجارية، حيث تشهد توسعًا مستمرًا في بنيتها التحتية وتعزيز قدراتها التشغيلية لتواكب متطلبات التجارة العالمية. وقد زُوّدت هذه الموانئ بأحدث التقنيات في مجال النقل البحري، مما ساهم في تسريع عمليات التفريغ والشحن، وتقليل فترات الانتظار بشكل ملحوظ.

الأمراض التي يتعرض لها الغواص وعلاجاتها:

لم تكن مهنة الغوص بحثًا عن اللؤلؤ مجرد عمل شاق، بل كانت مغامرة يومية تعرض الغواص لأخطارٍ جمة تتجاوز حدود التعب والإرهاق البدني. فالغواص كان يواجه بيئة قاسية تجمع بين حرارة الشمس وملوحة البحر وضغط الأعماق، مما جعله عرضة لجملةٍ من الأمراض والإصابات التي تترك آثارها على جسده وحياته.

ومن بين أبرز هذه العلل: الالتهابات الجلدية، والدمامل، وطنين الأذنين، والتقرحات، ولدغات الكائنات البحرية، وصولًا إلى حالات الغرق والموت المفاجئ الناتجة عن تشابك الحبال أو خلل في أدوات الغوص.

وقد طورت المجتمعات الساحلية، عبر خبراتها المتراكمة، وسائل علاج شعبية مستمدة من البيئة المحيطة بها، مثل استخدام الدباغ والمراهم الطبيعية، واللجوء إلى العيون المعدنية كعين دارين، وغيرها من الأساليب العلاجية التي شكّلت جزءًا من التراث البحري في الخليج.

وفيما يلي نستعرض بعض الأمراض التي قد تصيب الغواصين أثناء رحلتهم البحرية لاستخراج اللؤلؤ، مع ذكر بعض وسائل وطرق علاجاتها:

• أم الزيغة «أو أم الزيقة»: التهاب يصيب تحت الإبطين وبين الفخذين، نتيجة شدة الحر وملوحة مياه البحر. ويُعالج باستخدام ”الدباغ“.

• جير: نوع من البثور والدمامل التي تظهر على جسم الغواص بسبب كثرة المكوث تحت الماء المالح.

• إدباغ: مرهم يُستخدم لعلاج تفسخ جلد الغواص الناتج عن التعرض لأشعة الشمس وحرارة مياه البحر. ويتكون من: الفرط، الجفت، الشب، قشور الرمان، ومراهم أخرى. و”دباغة“ تعني طلاء الجلد أو مواضع الحروق بهذا المستحضر.

• عين دارين: عين ماء عذب ومعدني في منطقة ”دارين“ بالقطيف. اعتاد الغواصون المصابون بالدمامل والقروح على الاستحمام فيها. توجد فيها أسماك صغيرة تُعرف بـ ”العفطي“، تلتصق بجسم المصاب وتقوم بأكل الزوائد الجلدية من القروح، ثم تُعقّم الجروح بمياه العين المعدنية.

• الطنين: طنين في الأذن ناتج عن إجهاد الغواص نفسه في قاع البحر، مما يؤدي إلى انفجار الأذنين بسبب الضغط العالي. يُعالج بالأدوية الشعبية، وأحيانًا بالكيّ بالنار.

• جروح الرأس: تحدث نتيجة اصطدام رأس الغواص بحجر، أو بمؤخرة السفينة أو قاعها أثناء الصعود والخروج من الماء.

• الموت «لا قدّرَ الله»: قد يحدث نتيجة تشابك الحبال واختلاط ”الأنباط“ «حبال السحب» مع حبل ”الآلة“ - وهو حبل الثقل المرتبط بغواص آخر عند النزول أو الصعود - مما يؤدي إلى تعثر الغواص واختناقه تحت الماء.

• لدغة قنديل البحر القاتلة: يتعرض الغواص لمضايقات من قناديل البحر، وما يجعلها خطيرة هو مجسّاتها الشائكة التي تُفرز السم في جسم الضحية. هذه المجسات متصلة بغدد سُمّية قد تؤدي إلى قتل الضحية أو شلّها.

الآثار الاجتماعية لأمراض الغوص:

لم تكن الأمراض التي يُصاب بها الغواصون خلال رحلاتهم الطويلة في أعماق البحر خطرًا فرديًّا ينحصر أثره على الشخص المصاب فقط، بل كثيرًا ما امتد هذا الخطر ليشمل من حوله، سواء على ظهر السفينة أو بعد عودته إلى المجتمع. فالغواصون كانوا يعملون ويأكلون ويعيشون في مساحة ضيقة ومحدودة، مما يجعل احتمالية انتقال العدوى من مصاب إلى زملائه عالية، لا سيما في ظل غياب وسائل الوقاية والرعاية الصحية الحديثة آنذاك.

ومع عودة الغواص إلى موطنه، قد يحمل معه عدوى مرضية تنتشر في أوساط أسرته ومجتمعه، فتتحول رحلة الغوص من مصدر رزق إلى سبب في المعاناة الجماعية. وتتفاوت هذه الأمراض في أثرها، فبعضها طارئ يمكن الشفاء منه مع الزمن، لكن بعضها الآخر قد يكون مزمنًا أو مؤديًا إلى إعاقات دائمة، تؤثر على حياة الغواص وعلى موقعه الاجتماعي. فمثلًا، إذا أصيب الغواص بالعمى نتيجة التعرض المستمر للشمس أو لمياه البحر المالحة، فقد يفقد أهم مقومات مهنته ويُجبر على ترك الغوص والعمل في مهن أقل دخلًا، كأن يتحول إلى ”سيب“ - وهو من يساعد الغواصين في سحبهم من الماء - أو ربما يصبح مجرد خادم على ظهر السفينة، يعتمد على الآخرين في تأمين حاجاته.

وفي حالات أشد قسوة، قد تفضي الإصابة إلى الشلل أو العجز التام، فيتحول الغواص من شخص منتج ومصدر دخل لأسرته، إلى شخص عاجز، يثقل كاهل أهله بالعناية والرعاية المستمرة. ويزداد العبء النفسي والاجتماعي حين تكون الأسرة فقيرة، فتجد نفسها بين سندان المرض ومطرقة الحاجة، ما يؤدي إلى اهتزاز التماسك الأسري وتبدّل الأدوار داخل المنزل.

ولم تكن هذه الآثار مقتصرة على الجانب الأسري فحسب، بل كانت تؤثر في البنية الاجتماعية للمجتمع البحري بأكمله، حيث تتزايد أعداد العاجزين والمحتاجين. لهذا فإن أمراض الغوص لم تكن مجرد ظواهر صحية، بل كانت ظواهر اجتماعية عميقة الأثر، تؤثر في الأفراد والجماعات، وتشكل أحد الوجوه المعتمة لِحياة الغوص رغم ما فيها من شجاعة وتحدٍ وسعي نحو الرزق.

بعض الأحداث والمخاطر التي مرت بها الجزيرة العربية:

لم تكن الحياة في الجزيرة العربية عبر القرون الماضية سهلةً ولا مبشّرة، فقد واجهت المجتمعات المحلية موجات متتابعة من الأزمات والمحن، تراوحت بين الكوارث الطبيعية، والغلاء الفاحش، والأوبئة، والسيول، والظواهر الغريبة التي خُلِّدت في ذاكرة الأجيال. ولم تكن تلك الأحداث عابرة، بل تركت أثرها العميق في حياة الناس، فهزّت أمنهم، وبدّلت أحوالهم، وأجبرت الكثير منهم على النزوح والارتحال.

وقد أطلق الناس على بعض تلك السنوات تسميات خاصة، صارت جزءًا من الذاكرة الجماعية، مثل سنة الطبعة أو ”الدالوب“، وسنة سَوقة، وغيرها من الأحداث التي مثّلت محطات فاصلة في تاريخ المنطقة.

وفيما يلي رصد لبعض تلك الوقائع التي سجّلها المؤرخون وشهدها الآباء والأجداد، وهي تمثل شهادة على صبر المجتمعات وتكيّفها مع نوائب الدهر. من تلك الأحداث والوقائع ما يلي:

• سنة 1181 هـ «سنة سَوقة»: سُمّيت بهذا الاسم لما أصاب البلاد من قحط وغلاء وفقر ووباء شديد، اضطر معه كثير من سكان نجد إلى الهجرة نحو البصرة والزبير والأحساء طلبًا للرزق والنجاة من الجوع والمرض. وأصبحت تلك السنة علامة فارقة في الذاكرة الشعبية، حيث كانت مثالًا على صعوبة الحياة وقسوتها في تلك الفترة.

• سنة 1381 هـ: تعرّضت الأحساء ومناطقها المجاورة لسيول جارفة، اجتاحت الشعاب والأودية، وتسببت في أضرار بالغة بالمزارع والمساكن والبنية التحتية.

• سنة الطبعة «1344 هـ / 1925 م»: من أبرز الحوادث المفجعة التي راح ضحيتها عدد كبير من الناس ما يُعرف بـ ”سنة الطبعة“، وهي السنة التي غرقت فيها السفن. ووقعت الكارثة في الساعة السابعة وست عشرة دقيقة بعد مغيب شمس يوم الخميس 12 ربيع الأول 1344 هـ، الموافق 1 أكتوبر 1925 م، وذلك قبل نهاية موسم الغوص بيومين فقط. الكارثة بدأت بهبوب عاصفة بحرية مفاجئة على الخليج، تُشبه الإعصار، واستمرت نحو نصف ساعة، لكنها كانت كافية لإغراق ما يقارب ثمانين في المئة من سفن الغوص، ومات كثير من بحارتها غرقًا.

لم تقتصر آثار الإعصار على البحر فحسب، بل امتدت إلى البر المقابل في مناطق البحرين، والدمام، والقطيف، حيث سقطت العديد من البيوت، واقتُلعت أشجار النخيل، وخيّم الحزن على الأهالي. وقد دوّن الشاعر عبد المحسن العبد الله الملحم، من أهل الزلفي، وكان أحد الناجين من تلك الكارثة، أبياتًا خالدة تؤرّخ لهذا الحدث الأليم، فقال:

هَبَّتْ علينا من شمالٍ مِسيانْ
في غبّةٍ لا عاد ليلٍ عليهِ

وَغَلْنَطَسَتْ وأمطرتْ سحابْ طوفانْ
غضبُ قطرِها تقلّ جلدْ بَراديه

الرَّبْع لجّوا كَلَّبوهم بالأعيانْ
في حزّةٍ عاف الخوي من خويه

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحادثة التي يؤرّخ بها أهل البحرين والمنطقة الشرقية لمواليدهم وأحداثهم، تُعرف لدى أهل الكويت بـ ”طبعة البحرين“ أو ”سنة الدالوب“، تمييزًا لها عن ”سنة الطبعة“ الخاصة بسفن أهل الكويت، والتي وقعت سابقًا في عام 1288 هـ / 1871 م.

وفي الواقع، فإن الجزيرة العربية شهدت عبر تاريخها العديد من الأحداث الجسيمة، التي تركت أثرًا عميقًا في وجدان أهلها وذاكرتهم.

وهذا هو شأن المجاورين للبحار؛ فلا أحد في مأمن من أخطارها، ولا من غدر أمواجها، كما هو الحال مع تقلبات المناخ وتغيراته المستمرة، التي تجلب معها تحديات لا يعرف شدّتها إلا من خاض غمارها. ورغم المخاطر المحدقة، ظل البحر رفيق دربهم ومصدر رزقهم، يتحدّون أمواجه ويواجهون أهواله بعزيمة لا تلين.

وقفة عصف ذهني:

إن والدي ووالدتي «رحمهما الله» كانا يرويان لي ذكرى عن جد والدي، المسمّى صالح، حيث كان يذهب إلى الغوص ويغيب لمدة ستة أشهر. وعندما يعود لزيارة جدتي، كانت لا تستقبله بارتياح، إذ كانت تعمد إلى تغطية وجهها بالكامل باستخدام ”البوشية“، حتى لا تراه.

وكان سبب ذلك تغيّر لون بشرته، حيث يسود وجهه وجسده من التعرّض لأشعة الشمس الحارقة وحرارة الجو، نتيجة الغوص في البحر للبحث عن اللؤلؤ والمرجان.

وبعد أن يستقر ويأخذ قسطًا من الراحة، وينعم بالطعام، ويعيش في بساتين النخيل، ويأكل من خيرات الأحساء الحبيبة، يبدأ لون بشرته في العودة تدريجيًّا إلى طبيعته، ويستقر فترة بين أهله وأسرته.

ثم ما تلبث أن تنتهي إجازته، ليعود من جديد إلى عمله في ركوب البحر والسفن الشراعية والغوص، وكأنها مهنة عشق ومحبة، ومصدر رزق لأهله وأسرته التي تترقّب عودته في كل مرة.

إشارة أدبية:

ومن الجدير بالذكر أن نُقدّم لكم قصيدة الشاعر الكبير جاسم الصحيح، ضمن قصائد نجحت في تشخيص البحر عبر تاريخ العرب بتميّز، وهذا جزء منها:

يا بحرِ كُلُّكَ في مسامرتي فَمُ
فافتحْ زُجاجةَ ما تَكِنُّ وتَكْتُمُ

وأدرْ أساطيرَ الحكايةِ بينَنا
سَيّانَ شَهْدُ حديثِها والعَلْقَمُ