آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

كيف يتشكّل حدس الخبراء؟

الدكتور مصطفى المزعل * صحيفة مال

نعيش في عالم متسارع، لا يتّسع المجال فيه دائماً للتحليل ودراسة الخيارات المتاحة على رويّة، وفي أحيانٍ أخرى، لا تقودنا البيانات وتحليلها لاتخاذ القرارات، بل يتم اتخاذ القرارات وحسم التوجهات بناء على ”حدْس“.

ومن أمثلة ذلك، أن يتّخذ مستثمر ملائكي قرارًا بالاستثمار في شركة ناشئة دون دراسة تفصيلية للشركة، مكتفياً بالاستماع لعرضٍ موجز لا يتجاوز الخمس دقائق من قِبل رائد أعمال. أو أن يتخذ مدير قسم الاتصال المؤسسي في جهة ما، قرارًا حِيال أزمة إعلامية بحاجة لرد فعل عاجل، بحيث يقوده حدسه في تلك الأزمة للظهور بشكل سريع لجمهور المنظمة وتوضيح تفاصيل الأزمة، بينما يقوده حدسه في أزمة أخرى لتجنب الدخول مع الجمهور في أي حوار حتى تهدأ الأوضاع، فما هو حدس الخبراء؟ ومتى تزداد الحاجة له؟ وكيف يمكننا تنميته؟

توضّح الباحثة لورا هوانغ في كتابها الذي صدر مؤخراً بعنوان: You Already Know: The Science of Mastering Your Intuition أن الحدس وإن كان يبدو في ظاهره معتمداً على أحاسيسنا ومشاعرنا، إلا أنه في حقيقة الأمر مبني على تراكم خبرات وتجارب سابقة، وأحياناً كثيرة، أرقام وبيانات اطلعنا عليها مسبقاً، ويفيدنا الحدس في معالجة العديد من المشكلات، ولكن أي نوع منها؟ تصنّف هوانغ المشكلات إلى ثلاثة أنواع [1] :

1- البسيطة: وهي قائمة على قواعد معروفة ويمكن التنبؤ بها.

2- المعقدة: وهي متعددة الخطوات ويمكن التعامل معها بالمنطق.

3- المركبة أو الفوضوية: وهي غامضة، غير مؤكدة، ولا يمكن حلها بالبيانات فقط، فالحاجة للحدس تتركز أكثر في هذا النوع من المشكلات المركبة والفوضوية.

فكيف لنا أن ننمي هذه القدرة التي تبدو في ظاهرها بسيطة، غير أنّ في باطنها عمقًا مليئًا بالمدخلات؟

التجارب هي فعلاً المغذي الأساس للوصول لـ ”حدس الخبراء“، ولكن هناك العديد من الآليات التي من شأنها بناء هذا الحدس عند خوض هذه التجارب.

أولًا: خوض التجارب بوعي وباستحضار عقلية نقدية، بحيث تتم المراجعة الفورية والمستمرة للأداء وطلب آراء الآخرين، وما يُعرف بالتغذية الراجعة - وخصوصا من الخبراء - للوقوف على ما تم بطريقة صحيحة، وما لم يسر بالشكل المطلوب، تزداد الحاجة لذلك في القرارات والأعمال التي لا تنعكس نتائجها بشكل مباشر، وبالتالي يصعب تقييم النجاح من عدمه [2] ، [3] . وممارسة هذه التجارب المختلفة مع الوعي بنتائج أعمالنا وقراراتنا، تهيّئ العقل الباطن وتبني لدينا الحدس شيئًا فشيئًا [4] .

ثانيًا: التركيز والبعد عن التشتت، ويصف المؤلّف مالكوم جلادويل ذلك في إحدى كتبه، بالتقطيع النحيف (Thin-Slicing)، وهو التركيز على عدد محدود من الإشارات الحاسمة والأمور المهمة، وتجاهل الضوضاء غير المهمة، ومثال ذلك أن يقدّم رائد أعمال عرضاً فنيًّا وماليًّا لبيع حصة من شركته الناشئة ويخوض في تفاصيل كثيرة قد تُغرق المستثمر ذو الخبرة المحدودة وتشلّ قدرته على تمييز المهم من غيره وبالتالي يعجز عن اتخاذ قرار استثماري، بينما سيعزل المستثمر الخبير الكثير من المعلومات والأرقام، ليركّز على أمور محددة فقط ككفاءة فريق العمل، ووجود حاجة حقيقية للمنتج الذي تعمل على تصنيعه الشركة، وبذلك يعزل الخبير كمًّا كبيرًا من المعلومات التي من شأنها تعطيل اتخاذ القرار والتشتت عن الأمور الأساسية [4] .

ختاماً، حدس الخبراء من شأنه رفع الكفاءة والفاعلية ضمن أي فريق عمل [2] ، وأثر من يمتلك هذا الحدس يكون كبيراً على المنظومة التي ينتمي إليها، وقيمته بالتالي تكون أعلى من غيره.

[1]  L. Huang, You already know: The Art of Mastering Your Intuition. Harlow, England: Penguin Books, 2025.
[2]  E. Salas, M. A. Rosen, and D. DiazGranados, “Expertise-Based Intuition and Decision Making in Organizations,” Journal of Management, vol. 36, no. 4, pp. 941–973, Jul. 2010.
[3]  S. Sonnentag and B. M. Kleine, “Deliberate practice at work: A study with insurance agents,” J. Occup. Organ. Psychol., vol. 73, no. 1, pp. 87–102, Mar. 2000.
[4]  M. Gladwell, Blink: The Power of Thinking Without Thinking. 2006.
[5]  C.-H. Tsai, “Beyond intuitive know-how,” Phenomenol. Cogn. Sci., vol. 24, no. 2, pp. 381–394, Apr. 2025.
دكتوراه الإدارة الهندسية التكنولوجية