عجبي.. وهل عجب يجدي وينجي؟
لا أدري من أين أبدأ، وما أقول وأكتب؟ الفكر في شتات، تعجبا من دموع على فراق ظالم، استهزاء ببسيط، شماتة بصانع معروف أصيب، ولسان حاله يردد:
«تحالف الناس والزمان، فحيث كان الزمان كانوا».
تعاملنا وتعاطينا بازدواجية معايير مع المتكبرين والضعفاء والطيبين، وغير منصفة؛ همنا تغطية وجوه العاملين بإحسان حال حياتهم حتى لا يُعرفوا. نطفئ الأنوار لئلا يُروا، نقيم حواجز لا يصل أحد إليهم، فتظهر مكانتهم وما يقدمون. نشوه سمعتهم بدل الإطراء، ونيل وتكريمهم محاربة، وتشجيعهم تحقير.
إن بلغنا من يُشيد بأحدهم قلنا: أعماله رياء، مصلحة، وسمعة. نُسيء لأصحاب الأيادي البيضاء بعيوب ما كانت فيهم، لتصبح محاسنهم مساوئ، خصوصا المهنيين، في مقدمتهم مكرمو الموتى: «لا يُجالسون، لا يُؤاكلون، لا يُشترى منهم». جريمتهم أسقطوا عنا واجبا شرعيا، فصاروا بأعيننا وباءً! عجبي.. عندها يقول أحدهم: «ليتني ما عملت، مت وكنت نسيا منسيا».
وبعد الموت، أنت أحد الخمسة:
1: كأنك لم تعمل، لم تقدم، لم تخدم، ما كنت يوما بشرا سويا؛ لا يُرحم، لا ثناء عليك، لا ذكر صالحاتك. دُفنت معك دون غسل وكفن وصلاة.
2: لو أنصفك الدهر، ونقل التاريخ بعض منجزاتك للمشهد الاجتماعي، لقال الأغلب: لم نسمع بها، لم نرها، ليس بمقدورك فعلها، لأنها مغيبة، مهمشة، معابة.
3: إن حالفك الحظ، عندها تنبري أقلام، ويستيقظ نيام، وترتفع أصوات تأسفا وحسرة ولوعة فراق لرحيلك. كنت، رحمك الله، رسولا نبيا مجاهدا! عشت بين جهال قومك، لم يُعرف قدرك، فروح وريحان وجنة نعيم. عملت، فعلت، قدمت للإنسانية ما عجز عنه الأبطال في ساحات القتال، تُقلد الأوسمة، وتعانقك الألقاب التي لا تستحقها. سيئاتك حسنات.
نعم، التنويه أمر مطلوب لمن خدم بإخلاص، فإنها له عمر ثان، ولكن بإنصاف، دون زيادة أو نقصان. أنعم وأكرم، حقه في رقابنا، نُجزيه خيرا، فهذا أقل واجب.
«إنما كيف به ظالما؟ أليس الأولى تركه لا له ولا عليه؟ ألف مظلوم يلعنه كل صباح، وأزيد في المساء». ذكرياته سوء خلق، سلب حقوق، إثارة فتن، غيبة ونميمة.
4: في المقابل، لا نخلو من معتدلين، أمناء، راقين؛ يكتبون دون مبالغة أو تقصير، يعتمدون الحدث بعد توثيقه، لا يهمهم من تكون، تحمل شهادات عليا أم بيدك محراث، من مدينة كنت أو قرية، تنتمي لأسرة فقيرة أو غنية، لا ينعقون وراء كل ناعق، لا يتبعون: «قالوا، نقلنا، كتبوا، اقتبسنا، أو كما وصلنا». ديدنهم الصدق، ومنهجهم الأخلاق، وهدفهم الحقيقة، وقل ما هم.
أثناء كتابتي هذا المقال، اطلعت على مقالين بتاريخ 2025/9/27 في «صحيفة جهات»، للكاتبين الكريمين:
الأول عماد العبيدان، عن الدكتور صالح الشرفاء، منوها بمستواه الطبي ومسيرته في مجال عمله وكثرة الاحتياج لتخصصه في حاضرنا، بمصداقية متوازنة. أقولها بثقة لمعرفتي بالمترجم له.
والآخر حسن آل ناصر، عن المعلم إبراهيم آل سعيد، مربي الأجيال لعقود، مستعرضا ذاته بإسهاب من نشأته إلى يومه هذا، والاثنان لا يزالان بيننا روحا ونشاطا.
هكذا ينبغي قبل الممات، لا بعده. بالتوفيق للدكتور الناجح، وللمعلم الفاضل، والشكر للكاتب المتألق.
5: أما إن كان نصيبك من الفئة الخامسة، فخلفك من يُعريك من محاسنك ليُعيّرها غيرك، ويستبدلها لك مساوئ.
المرحوم الوجيه الحاج أحمد حسن مكي الحليلي «أبو خالد» يقول:
«فينا من يريدك تعمل لا لتُشكر، إنما لينسب ما فعلته إليه، بلا دور له فيه، ولا أصابة منه نصب.»
كذب في الأولى، وبهتان في الثانية، وظلم في الثالثة. يضعك في مصاف كفار قريش وألعن، فتلقى ربك مظلوما حيا وميتا، تشكيهم إليه سبحانه، فعنده تجتمع الخصوم، يحاسبهم: من أين جئتم بهذا؟ ولماذا تركتم ذاك؟ أخذتم، غيرتم، أضفتم بهوى وحسد وميل.
قال تعالى:
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: 14].
يا كاتب، يا متكلم، يا ناقل، لا تحد عن الصواب، لا تحف، لا تغال، قل حقيقة واقع من تعني، أو اسكت.
في الختام، نسأل: أين هؤلاء؟ أهم بيننا، أم بعد رحيلهم عنا فُتحت خزائن قارون فبانت وأطلعونا عليها؟ أم على ملة كفر كانوا، والموت يجب ما قبله؟ لست أدري…
الخلاصة: كلامي بالتأكيد لا يُرضي المطبلين المنتقصين، رافعي رايات التزوير، وإلا فلمَ التغيير والتعطيل والبخس؟
«أين العدالة؟ أين الضمير؟ أين الوفاء؟»
أتمنى أن يكون الجواب:
«وإن طلبت معدومة - معسورة - لا تيأس من الظفر»،
هو حالنا، إلا ما رحم.
نحتاج تقييم المفاهيم، وتقصي الحقائق، وإضاءة الطريق لنسلكه بأمان.













