الموت لا يقتل، بل يوقظ
في كل يوم يطرق الموت بابًا من أبوابنا، يأخذ قريبًا أو جارًا أو صديقًا، صغيرًا أو كبيرًا، مريضًا أرهقته العلة أو صحيحًا في أوج صحته وعافيته. وكأن هذه الحقيقة الأبدية تلاحقنا بلا هوادة لتقول لنا: لا مفر من الرحيل، ولا أحد مخلّد، طال العمر أو قصر. هي الحقيقة المطلقة التي يشترك فيها البشر جميعًا، مهما اختلفت أديانهم أو مذاهبهم أو فلسفاتهم.
العلم يراه توقفًا نهائيًا لوظائف الجسد الحيوية؛ قلب يتوقف عن النبض، ورئتان تكفان عن التنفس، ودماغ يصمت عن إرسال الإشارات. غير أن الفلاسفة رأوا فيه ما هو أعمق من حدث بيولوجي؛ فسقراط اعتبره انتقالًا إلى عالم آخر لا يدعو إلى الخوف، بينما وصفه هايدغر بأنه المحفّز الأكبر لمعنى الحياة، إذ يجعل الإنسان أكثر وعيًا بقيمة أيامه لأنها محدودة الأجل.
أما الأديان فقد منحت الموت معنى يتجاوز الفناء. ففي المسيحية هو عبور نحو حياة أبدية، وفي الديانات الشرقية حلقة في سلسلة تناسخ الأرواح، وفي الإسلام انتقال من الدنيا إلى البرزخ بانتظار البعث والحساب. وقد جاء في تراث الإسلام وأحاديث النبي ﷺ وأهل بيته الطاهرين أن الموت ليس انقطاعًا، بل عبور من دار الفناء إلى دار البقاء. يقول الإمام علي
: ”إنكم إن لم تكونوا أبناء الآخرة، فما أنتم إلا أبناء الموت“. وتصف الروايات لحظة خروج الروح بأنها انتقال قصير يعقبه البرزخ، ذلك العالم الوسيط الذي يعيشه الإنسان حتى يوم القيامة. ثم تأتي الآخرة، حيث تتجلى عدالة الله، فيجازى كل إنسان بما قدّم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ . وتؤكد الأحاديث أن الموت للمؤمن ليس رعبًا بل راحة ولقاء بالرحمة الإلهية، كما روي عن الإمام جعفر الصادق
قوله: ”والله ما هو إلا كغمضة عين يخرج فيها الروح من هذه الأجساد إلى النعيم المقيم“.
الموت ليس تجربة فردية فقط، بل هو حدث اجتماعي يعصف بمن حول الراحل، يترك فراغًا عاطفيًا ويعيد ترتيب العلاقات ويذكّر الناس بقيمة العمر القصير. فمن جهة يثير الحزن والفقد، ومن جهة أخرى يُحيي قيم التضامن والرحمة، ويحفز على مراجعة الذات والعمل الصالح وترك الأثر الطيب.
وإذا كان الموت قدرًا لا يفرّ منه أحد، فإن الحياة التي تسبقه هي الفرصة الوحيدة لنكتب بصمت أسمائنا في سجل الخلود. فالأعمار تفنى والأجساد تُوارى التراب، لكن ما يبقى هو الذكر الحسن والعمل النافع الذي يخلّد الإنسان في القلوب والضمائر. ولعل أجمل ما قيل في ذلك ما جاء عن الإمام علي بن أبي طالب
: ”الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.“













