أمهاتنا و”الفاشن“!
شدّني الطقسُ عصر الأمس في لطفه ورقته إلى ذكرياتِ الأمهات، فعدتُ للحيّ القديم الذي كبرنا فيه. مشيتُ بين البيوتِ وطافت بي الذكريات! هذا بيت أمّ فلان رحمها الله وهذا بيت أم فلانة رحمها الله! لم تكن ”الفاشن“ في نظرهنّ سوى الطيبة والكرم والحنان. رحمهنّ الله ما ذقنَ من حلاوةِ الدنيا إلا القليل التافه، بل هنّ أعطين الدنيا حلاوة. ما أعطتهنّ ”الفاشن“ والألوان المطرزة قيمةً إضافيّة وهنّ - رحمهنّ الله - زينّ اللباس. بيوت ضيقة ومزدحمة، عمل شاق، لا خادم ولا سائق ولا سيارة، والقليل جدًّا من وسائل رفاهيَّة الحياة!
آنذاك، كان الغرض من الملابس الستر وتغطية الجسد، لا إظهار الزينة والجمال. ملابس الأمهات والجدات اختفت تمامًا من موضة العصر. دخلت التاريخ وحل محلها؛ موضة، فاشن، لون، تشكيلة، آخر صيحة، وغير ذلك من أسماء. نعم - في مجتمعنا - لا يزال بعض النساء يلبسن عباءة الرأس والبوشية.
كانت الواحدة منهنّ تمشي في الطريق لا نعرفها إلا إذا هي قالت لنا ونحن أطفال: ولد فلانة، كيف هي أمك؟ أبلغها السلام! حينئذٍ نعرف أن من تمشي في الطريق هي الحاجة فلانة، أم فلان! أما الرداء فيغطّيها بالكامل وتمشي قطعةً واحدة.
فليحمد الله من عنده أمّ أو زوجة أو أخت أو بنت من هذا الطراز الفاخر، لم تعد مصانع المجتمعات تنتج هذه النوعيَّة من البشر الذين صبروا على الحياة. لم يهتموا كثيرًا للحصول على الرفاهيّة و”الفاشن“، وإن اهتموا بالرفاهيّة فهي بعيدة المنال على أغلبهنّ. في فصل الشتاء، إذا أمطرت حمل المطرُ إليهم آلام المطر، وإذا اشتدّ البردُ شعروا به وكأنهم في العراء! وفصل الصيف ليس أرحم من فصل الشتاء.
القارئ العزيز، إن كنت شابًّا فبعض الأشياء لا تعني لك الكثير. أما إذا أنت من أهل ذلك الجيل فأنت ترى تأثير الأزمنة في حياة النّاس وسلوكهم وفي لباسهم وتتوق نفسك لتذكر الماضي، وإن صحّ قول لكلّ زمانٍ لباس، فلباسُ الحشمة والوقار لباس كلّ الأزمنة.
في كلّ زمان، اللباس يستر البدن ويخفي العيوب ويجعل الأجسامَ تبدو جميلةً بتعدد ألوانه وأشكاله. لباسٌ ظاهري يحفظ البدن من الحرّ والقرّ والأخطار، بالإضافة إلى كونه زينة للإنسان،. ولباس آخر معنوي ”التقوى“ والحشمة، فيه جمال الداخل وجمال الروح ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.