آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:44 م

الانتكاسة البدنية والنفسية ‎‎

قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ”4“ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ”5“ - التين الآية 4 - 5.

الإنسان في وجوده المادي يتعدد إلى مراحل ينتقل إليها مرحلة بعد مرحلة، فيبدأ مرحلة الضعف مع ولادته ونعومة أظافره فيحتاج في كل حاجاته إلى مساعدة أمه وحنان والديه، وتبدأ مرحلة القوة والفتوة حتى يصل إلى أوج قوته في مرحلة الشباب والاقتدار وتكامل الإدراكات والمهارات، ومن ثم يعاود إلى مرحلة الضعف والهرم في مرحلة الشيخوخة وكبر السن وتلاشي قوته شيئا فشيئا، وهذه سنة إلهية تجري على عباده في أبدانهم وانتقالها من مرحلة القوة ثم تتسافل تدريجيا في مراحل الضعف والاحتياج إلى مساعدة الغير، وهذا الأمر وإن كان الإنسان لا دخل له في هذا التسافل التدريجي في بدنه ولكنه ينبغي عليه استثمار فترة شبابه وقوته فيعمل بكل جد واجتهاد على مستوى تنمية مداركه العقلية، ويجتهد في أن يحجز له مقعدا في ميدان الإنجاز والإبداع وتنمية مهاراته، فكم من شاب عاش بين أحضان الدعة وطلب الراحة والتكاسل وضيع شبابه وفوت على نفسه الشيء الكثير من طلب الخير وصنع المعروف، فضلا عن ضعف علاقته بالله تعالى وتقصيره في عباداته.

وكما تقع الانتكاسة والتسافل في الجانب المادي فكذلك هو الأمر في الجانب النفسي بين الارتقاء أو التقهقر، فهذه الآيات القرآنية تؤكد على حقيقة التكريم الإلهي للإنسان بما يلبسه ثوب العزة والرفعة، وهذه الكرامة تتجلى في تميزه عن الهيئة الحيوانية بدنيا وإدراكا عقليا، فالمدركات العقلية هي أساس البصيرة الواعية والسلوك المتزن عنده، ومتى ما كبح جماح العقل الواعي وسار خلف الأهواء والشهوات فإنها تأخذه بعيدا عن الحكمة والمنطقية وتنزل به إلى مدارك التسافل الأخلاقي، ولذا فإن المرء يحافظ على كرامته متى ما قام بتحكيم عقله الناضج ونظر في عواقب تلك الخطوة والآثار الإيجابية والسلبية المترتبة عليها، وإذا نظرنا في كتاب الله تعالى عند ذكره للأقوام السابقة وما كانت عليه من ضياع وارتكاب الخطايا، فسنجد الأمر المشترك بينها هو الابتعاد عن القيادة العقلية بعد الإصابة بشيء من ملوثات النفس من الآثام الأخلاقية كالاستكبار وعناد الحق بعد اتضاحه والسير خلف مرائي النفس الأمارة بالسوء، فأصل خلقة الإنسان هي الرفعة والكرامة والرقي ومتى ما أراد الحفاظ على مكانته الحقيقية والوجودية فعليه الالتزام بالنهج العقلائي، ولكنه في لحظة طيش وغفلة وجهالة قد يتنازل عن هذا الألق ويرتضي المكانة المتدنية عند مستنقع الآفات والرذائل، ولا يتم هذا الأمر إلا بعد أن يتجه خطوات نحو الوراء والتقهقر عن منصة العلياء.

وبلا شك أن الأمر لو كان واضحا أمام مرآة النفس وخيرت بين طريق المجد أو طريق التسافل، فإنه لن يختار ذلك الوحل والبقاء في الماء الآسن وسيسارع إلى منصة الألق والشرف، بل حتى في لحظات وقوعه في مستنقع الخطايا لو أبصرها كحقائق بمعنى أنها مجموعة من المستويات التي تنازل عنها شيء فشيئا حتى وصل إلى هذا المستنقع فسينتشل نفسه، ولكنه في تلك اللحظات مشوش الفكر ومكبل في سلوكه وخطواته بأغلال الأهواء والشهوات المتفلتة، ولذا علينا أن نستكشف حقيقة هذا الوقوع في الهاوية والعوامل المؤدية به إلى هذه الحقيقة التي سماها القرآن الكريم بأسفل السافلين!!

من العوامل المؤثرة في تخاذل الإنسان عن نفسه وسقوطه في هاوية المساوئ والعيوب اللاحقة به، هي ضعف الرقابة على نفسه وجوارحه فيما تقترفه وتقدمه فتتوالى الأخطاء وأوجه التقصير دون ملاحظتها والتفكير في وقف هذا النزيف والخسارة، ومتى ما امتلك المرء بصيرة واعية وأخذ يدقق في كل ما يقدم عليه ولاحظ أنه يتجه به تكامليا أم تسافلا، فسيعمل على ضبط خطواته وعمل جهاز تصفية وتنقية يساعده على تجنب مواطن الزلل والهفوات.

ومن تلك العوامل التي ترديه في هاوية التسافل اتباع الشهوات والغرائز دون التوقف عند الحدود الشرعية لها، فغريزة حب المال - مثلا - تسترسل به حتى يصبح جامعا وكانزا للمال وتزرق روحه بأمراض الشح والامتناع عن الإنفاق في سبيل الله عز وجل، بل ولا يجد حرجا في الدخول في المعاملات المشبوهة والحرام، وهذا المعنى من تسافل الروح مرجعه كما يقول العلماء التصاقها بالبدن واحتياجاته وارتباطه بالغرائز والشهوات.