آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 6:02 م

وداعا ناصر

عبد العظيم شلي

قرب منتصف الليل بلغني رحيل عزيز في ظرف دقائق معدودة. خبر وراء خبر، من البيت ومن خارجه، وعبر قروبات الأصحاب الضاجة بإعلان الرحيل، متسائلاً: هل صحيح كل ما أسمع وما أقرأ؟ رحت أفتش عبر الصحف الإلكترونية ما يؤكد ذلك ولحظت أنه لم يرد أي شيء! كنت أأمل في نفسي بأن لا يكون الخبر صحيحًا، ولكن اسفر الصبح بأحزان الأحبة، يتناقلون صور ولقطات فيديو للراحل، أشعار وكلمات مؤثرة، كم هائل من الترحمات على شخصية محبوبة عند الجميع. لم تستوعب النفس الأمر بعدم التصديق، لكن سطرت الجملة بقطع الشك باليقين، ”انتقل إلى رحمة الله تعالى المعلم الحاج ناصر علي يوسف العليوات“، نعم هكذا جاء العنوان المعتاد لكل من يرحلون.

هو التسليم بقضاء الله وقدره، بأن الموت حق في رقاب العباد، كل منا سيرحل عن هذه الدنيا الفانية ذات يوم، في أي يوم وفي أي ساعة وفي أي دقيقة وعن عمر كم؟ كل هذا علمه عند الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو القهار، وسبحان من قهر عباده بالموت والفناء.

يبقى رحيل الأحبة موجع مؤلم، والفراق صعب، ولا إرادياً تتناثر صور الذكرى تباعاً والنفس تستعيد كيان ممن فقدنا، فجميع أحاسيسنا ومشاعرنا تتشبث بحضوره وكأننا نريده أن يبقى معنا للأبد. كم من الخواطر ستعبر أخيلة الأحبة والأصدقاء والمعارف المقربين من استاذ ناصر عليوات، كل له ذكرى وله مواقف جمة، وكل له اشجانه وذكرياته العطرة.

بالنسبة لي، تتقاطع أشياء مع جلّ من عرفوه وكل من عاشروه ورافقوه أزمانا. سأمضي في نبش أشياء من الذاكرة، ولا أريد نعيا بكائيا بقدر ما هي سطور ترمي لتثمين شخص نعزه ونقدره وقد ترك أجمل الذكريات في نفوس محبيه.

عرفت أستاذ ناصر لاعبا عام 1972م في ملعب نادي النور شمال مدرسة عمار بن ياسر بسنابس، واشتد عوده في التنافس المحموم في كرة القدم أثناء مباريات الهدى والنور، والغلبة لفرقة النور الذهبية لجيل لا يتكرر، مكتمل الصفوف وأعرف أفراده فردا فردا، وعلى رأسهم المهاجم الفذ حسن الأبيض وهنا لا يسعني المجال لذكر تلك الكوكبة.

كان لاعبا في مركز الجناح مرات ورأس حربة أحيانًا، رشيقاً ذو مهارات عالية وسرعة في العدو، يرفع الكرات يمينًا ويتلقى التمريرات من محمد علي تلاقف وميرزا الحسن وفضل، ملوك الوسط. نسمع الصيحات منهم ”ناصر.. ناصر ارفع ارفع“ رفعات خطرة بل قاتلة قذفتها الرؤوس أهدافا في مرمى الخصوم، ومع تلك النجوم اللامعة صعدت فرقة النور عام 1979 لمصاف الدرجة الأولى، لكن بعد عام من المعاناة هبطوا للدرجة الثانية لزمن كئيب 1980م، كوكبة النور بدأ يخبو نورها، ثمة وميض أضاعوه ردحافريالعتاوية“، لعب لتصريف الوقت واعادة الأيام الخوالي.

من بين تلك الأمجاد الكروية منتصف السبعينات الميلادية، رأيت حفلاً منوعاً لنادي النور ضمن مسابقة الأندية للفنون المسرحية وتحديداً 1977م، وعلى خشبة مسرح مدرسة عمار بن ياسر. فقرة بعنوان ”يا أصحاب العمارات“ عبارة عن منلوج ينتقد جشع المؤجرين على الناس المتواضع دخلهم، مشهد شدّ به الممثل ناصر عليوات وكان يقوم بحركات ساخرة بين النقد المباشر وإبراز ألم الناس الغلابة، تجاوب النصّ فرقة سنابس الموسيقية بينما الخلفية رسم لعمارات شاهقة بريشة الفنان باقر الهاشم.

تأتي الأيام ويتقاطع الزمن وأكون زميلاً مع الأستاذ ناصر في رحاب مدرسة الإمام مسلم بسنابس، وهنا تتوطد العلاقة منذ منتصف الثمانينات، زمالة مهنة التعليم لسنين عديدة تقاسمنا فيها الضحكة والمزاح والحصص والمناوبة والانتظار، وكم افترشنا موائد الطعام، وتبادلنا الأشجان.

ما أجملك يا أستاذ ناصر أثناء الرحلات المدرسية كنت الداعم للطباخ تتأبط عزماً وتلف غترتك كالعمامة تشمر عن ساعديك، في إعداد الولائم، ومن يراك لا يظن بأنك معلم، تتصرف بشعبية تلقائية، تنفي عن شخصك الكلفة لكل من يقترب منك.

هي صورتك المرسومة في الأذهان لا تكبر ولا هي صورتك المرسومة في الأذهان لا تكبّر ولا تعالٍ. لا عبوس ولا تبرم من أي شيء، من يجالسك يحتار بين جدك والهزل. فالضحكة على لسانك والفرفشة ديدنك، ولا يستطيع الناظر إليك إلا أن يستأنس بوجودك.

كنت مدرساً للغة العربية، أنرتني بطرق الإعراب المختصرة، محبوباً عند جميع الطلبة. مخلصاً في الدرس وسهولة الشرح بتقريب المعلومة في أبهى صورة، ما أظن صورتك ستغيب عن أذهان كل من عرفك.

كم نثمن طلابنا الأوفياء الذين يزورون معلميهم وخصوصاً طلاب مدرسة الإمام مسلم، الذين انطلقوا بتسمية أنفسهم «بقروب ناصر عليوات» فهم ابتدؤوا بزيارتك بين فنية وأخرى، كلما زادهم الحنين حلوا ضيوفا عندك والصور تخبرنا عن ابتهاجك بهم وفرحتهم الغامرة بك.

ما أجملك يا أستاذ ناصر حينما تقابلني بالقبلات وبابتسامة ضافية على محياك وتقول لي: ”أشلون نسيبتنا، سلم عليها سلام كثير“ - يقصد زوجتي - إذ هناك وشائج صداقة متينة وعريقة بين عائلة تلاقف وعليوات من الصغير للكبير من نساء ورجال جيرة وتداخل نسب. وتأتي السلامات منك عبر ألسنة المحبين والأعزاء، ”يسلم عليكم الخال“. هي التسمية المتداولة تحببا من الغالبية أكثر من مناداتك «أبو حسين».

أيها الراحل عنا، حلمت بك البارحة بعدما توالى خبر نعيك ”أبو حسين عليوات في ذمة الله“ بأنني واقف عند مجلسك، أنظر لرف من الكتب وأتصفح بعضاً منها وأتخاطب مع حسن علي دعبل القريب منكم، بينما الباب مشرعاً على مصراعيه والمشيعون سائرون بك نحو المقبرة،
في تشييع كأنه عزاء حسيني حسبته موكب من أيام عاشوراء واستغربت من نفسي بأنني لم ألحق بهم! أهو تقصير مني بأنني لم أزرك منذ شهور! لست أدري كيف أتيتني حلماً، وربما هي المرة الوحيدة التي حلمت بك.

كيف حال أصدقاؤك اليوم؟ أخوانك المقربون الذين لم تلدهم أمك، مجموعة ملتحمة معك منذ الطفولة لحد الآن، وهم الذين رحلوا عن نفسك قبل أسبوع بطلعة خلوية، كانت تلك الضحكات والسوالف هي الأخيرة، وها هو عضيدك في السراء والضراء أبو حسام، أستاذ محمد علي تلاقف يزفر التنهيدة الموجعة: «أبكي على فراقك خويا يا أبو حسين.. يا هو الذي ينساك والدمع بالعين»، سلام على روحك يا أطيب الناس، لن يطرق بابك اليوم أحد.