آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

وجه الفجر

عبد الله الناصر

عشرة أصابع بيدي، كانت تمسح على وجه كوجه الفجر مشع دائمًا بالابتسامة، هذه اليد التي صافحت تلك الثقوب التي أحدثتها العمليات في جسده؛ لتصنع له ثوبًا زين ببصمات من التحديات والصبر والحمد الدائم.

كنت أمسح برفق على مكان كليتيه اللتين استسلمتا للموت بعد رحلة جهاد سنوات طويلة، في محاولة منها لتبقي لنا هذا الجسد نابضًا بالحياة. رحلة طويلة تخللتها فصولا من الغسيل والتبديل والانتكاسات والصراعات، وكانت خاتمة كل فصل منها انتصار وقوة إلى أن أعلنت ختام آخر فصول لها باستسلامها.

بين جدران المغتسل كنت أمسك دموعي التي اكتظت في مقلة العين من السقوط بجهد، كنت أحاول صلب نفسي؛ للمشاركة في تغسيل «أبو عايد» صديق العمر، وابن خالتي، والجار الخلوق، وابن القرية الحبيب.

أغمض عينيه بهدوء، وعلى وجهه السكينة؛ ليودع الحياة التي ترك فيها اسم «أبو عايد» مختومًا في قلوب أهالي الأوجام؛ رغم أنه لم يرزقه الله بالأولاد، استقبل الموت بكل أناقة، وبسعة من الاطمئنان، كأنه يقول للموت أنا الفائز وأنت المهزوم.

جاء وقت الرحيل، رفعت الجنازة بجسد خفيف خالٍ من الأجهزة التي لاصقته وأرهقته، واتجهت عيني لوداع أخير؛ لمشاهدة ملامح وجهه الذي سيغيب تحت التراب بعد قليل، وفي داخلي إيمان كبير أنه ذاهب لبيت جديد فرش له بوسادة من الراحة والسعادة؛ فهو في أمانة الرحمن الرحيم.

وقفت في المقبرة مع المعزين، صافحت العشرات، وكانت فوق رأسي غيمة مثقلة تأخذني إلى تفاصيل صغيرة من بيت الذاكرة، إلى السنوات التي جمعتني مع أبي عايد بدءا من طفولتنا المشتركة، إلى مراهقتنا، والنضج والرشد.

كانت وجوه المعزين شاحبة، يبكون بدموع صادقة، أبو عايد الذي كان وقت الزيارة محدودًا لرؤيته في غرف المستشفيات، أصبح اليوم في بيته الجديد، حيث الزيارة مفتوحة دائمة يستقبل فيه كل المحبين.

كان من أكثر رجال القرية المحبين، صاحب البسمة التي لم تغب عنه حتى في أشد مراحل الوجع، صاحب القلب الحنون لكل من حوله، كان معطاء للحب الأبوي الذي فقده بعد موت والده، وكسر قلبه بعد ذلك برحيل والدته التي ستجتمع به تحت التراب بعد فراق، وأنا اليوم أقدم العزاء لخالتي التي غيبها الموت؛ لكنها ما زالت حية بيننا، فلا يمكنني نسيان تلك الطيبة التي عاملتني كإبن لها، تذكرني بوالدتي، كلتاهما تحملان نفس المحيا، وتقاسيم الوجه، وعمق النظرات، صاحبة الطيبة التي رافقتها طيلة العمر..

عزائي إلى جميع أهلك يا أبا عايد، ستكون الأيام القادمة مظلمة لديهم بفقدك، لكن الله سيرزقهم الرضا والصبر الجميل والقبول بالقضاء والقدر، فهو القادر على إنزال الصبر والسلوان في قلوب عباده، ومكافئتهم بالكثير من الأجر والخيرات نتيجة صبرهم هذا وتوكيل أمرهم إليه.

أعزي الأوجام فقدها روح كانت تزيد القرية جمالا وألفة وود، وقدوة حسنة، روح علمتنا أن المرض لا يعني الاستسلام، وأن الأخلاق هي العملة الأصعب بهذا الزمن، وأن الابتسامة لا تكلف الكثير؛ لكنها تترك الأثر العظيم، وأن النية الطيبة تصنع التاريخ الباقي للإنسان بعد رحيله.

رحمك الله يا أبا عايد الأخ الذي لم تلده أمي، نم قرير العين، يا صاحب وجه الفجر الذي دفن مع الغروب، وكأن الشمس تودعك معنا، غاب جسدك لكن هناك رائحة عطرة تفوح بيننا كلما ذكر اسمك، رحمة الله ورضوانه عليك وإنا لله وإنا إليه راجعون.