آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

رغم قصرها إلا أن الهاجس الأخلاقي والقيمي يطغى على نصوصها،

ونبقى لا نملّ من ملاحقة بعوضة حسن البطران ذات الأرجل القصيرة جداً

الزهراء وزيك *

ونبدأ بملاحقة البعوضة، هكذا استهل الأستاذ حسن البطران مجموعته القصصية، في دعوة منه، حيث يدعونا لمرافقته في رحلة استكشافية جميلة وخفيفة تحت ظلال مجموعته القصصية أصغر من رجل بعوضة، لنجد أنفسنا رفقته في رحلة على بساط أخف من وزن بعوضة، وكلنا نعلم مدى صغر حجم البعوضة بل هي من الكائنات الضعيفة ولكن رغم حجمها ووزنها الضعيف جدا إلا أنها تحمل مائة عين في رأسها، وستة سكاكين في خرطومها، وثلاثة أجنحة من كل جهة، وتحمل ثلاثة قلوب في جوفها، وغير ذلك من الميزات الخِلقية التي تتفوق بها على غيرها من الكائنات الصغيرة والتي تكبرها حجما ووزنا، هكذا هي نصوص الأديب حسن علي البطران.

«أصغر من رجل بعوضة» مجموعة قوية جدا تؤثث لأدب بطراني صرف، لا يتقنه إلا من كانت تجاربه الحياتية زاخرة، تمتح من ثقافة واسعة وأدب زاخر، فلا يمكن أن يكتب القصة الومضة أو القصيرة جدا إلا أديب متمكن، يصنع من الكلمة المفردة، قنبلة تنفجر في وجه القارئ. كاتب يدرك الفرق بين «القفز من السطح / والقفز إلى سطح»، بين دلالة تنكير اسم ودلالة تعريفه ب «ال»، والمعادلات والمفارقات التي تحدثها في ذهن المتلقي.

وهذه الدعوة من الكاتب إلى أن نرافقه في ملاحقة البعوضة، يخلق لدينا نوعا من الفضول، فنلبي دعوته ونخضع لرغبته فنواصل البحث والاستكشاف.

نجد أنفسنا نسافر على مدى ما يقارب 90 كيلومترا - عفوا صفحة -، وبين صفحة وصفحة نصادف مقطوعات أدبية زاخرة، نصوصا شهية، أقل ما يمكن أن نقوله عنها، أنها بحجم بعوضة ولكنها تختزل في حجمها القليل جدا، رسائل قوية وعبرا ثرية.

في كل محطة، تستقبلنا ثلاثية من الروائع، نقرأها ونعاود القراءة ونستنطقها لنستنبط الفكرة التي تحملها ونستشف فلسفة الكاتب من خلالها... إنها ثلاثيات البطران على غرار رباعيات الخيام.

وإذا ما حاولنا تقصي كل مجموعة من الثلاثيات واستنطاق جزئياتها سنجد أن القاسم المشترك بينها هو الهاجس الأخلاقي الذي نفتقده في عصرنا، وهاجس انهيار القيم في مجتمعاتنا المعاصرة.

فإذا استنطقنا المعاجم الدلالية للنصوص التي تضمها المجموعة، نجد أنه يطغى عليها المعجم الأخلاقي والقيمي سواء بشكل مباشر أو رمزي، وذلك على الشكل التالي:

المسبحة، النقاب الممزق، السجود، الصلاة، الوضوء، إمام المسجد، الزرع، سترت، العورة،

الزرع، العورة، العطاء، الطعن في الظهر، الثقوب، القشور، الغرور، تلوث القداسة، الطهارة، الأدران، الاوساخ، الذئاب والغنم، سفيه، ثقة مخرومة، مخالب النسر، مياه راكدة..

وكنموذج على ذلك يقول في اول مقطوعة

«فلتر»: ” أراد أن يقفز من السطح؛

قفز إلى سطح.“

فهذا النص يميط اللثام عن القيم المادية السائدة في مجتمعاتنا، حيث يلهث الإنسان وراء أطماعه، وجشعه للوصول بأي طريقة، فالسطح هنا كلمة معرفة بال، ولا يصح تأويلها الا بأنها كل منصب عال أو سلطة يسعى إليها بطرق سهلة، ولكن غالبا ماتكون النهاية فضح النوايا، فكلمة سطح كاسم نكرة يرمز إلى اكتشاف نهاية الطمع والجشع والماديات وهو الفضح والزوال، وتبقى الغلبة لكل ماهو إنساني نبيل، فالحياة محك يفلتر ويغربل الصالح من الطالح، وعند نهاية النص نكتشف قوة عنوانه: «فلتر».

كما نجد في نص «عقدة عالية»؛

” أبعد عنها،

تناثرت حبات المسبحة.“

اشارة إلى تلك الرابطة القوية التي تربط بين الآباء والأبناء، خصوصا بين الأم وأولادها، كمثل حبات السبحة يجمعها خيط، ويجمعها ترديد استغفار وتكبير وتهليل يقوي الروابط، رابطة الأمومة كما البُنوّة والأخوة، والمسبحة ترمز إلى الدين الإسلامي الذي يقوي هذه الروابط ويقننها، ويضبطها، وكل تدخل في هذه العلاقات فسيؤذيها ويؤدي بها إلى الشتات كما تتشتت وتتناثر حبات المسبحة أو السّبحة... إنها حقا علاقات مربوطة من أعلى. وهكذا نلاحظ أن الكاتب حسن البطران يحمل هم العلاقات الإنسانية المبنية على الشريعة الإسلامية، والتي بدأت يخترقها الفكر المادي ليشتتها.

أما نص «فراغ»: ” حرث الأرض وأشبعها بالري،

لم تنبت زرعا. “

هناك نجد اختراق العولمة لحياتنا الأسرية وبيوتنا، فلم تعد يجد دور الأب أو الأم في التربية، وكأنهما يسكبان الماء في الرملة فلا تنبت زرعا، بسبب اختراق الوسائل التكنولوجية البيوت لتخرب تلك التربية الصالحة التي يبنيها المربي ويتعهدها بالرعاية منذ الصغر، فلا يجني الا خراب العقول والنفوس، فكان العنوان «فراغ» أنسب للنص وأقوى وأبلغ..

وهكذا نتابع مع البطران البحث عن قيم مفقودة؛ كالوفاء والثقة والتواضع، والعفاف، والطهارة وغيرها في زمن تغشاه الملوّثات من كل حدب وصوب، ليجد الإنسان نفسه يلاحق السراب في زمن ليس له لون.

لقد اشتغل البطران على عناوين نصوصه بشكل ذكي ومحكم جدا، وبهذا كانت نصوصه قوية وتخلق الدهشة.

كما تتراوح الحقول المعجمية في هذه النصوص مابين الطبيعي؛ «حيواني أو نباتي»، والإنساني /العلائقي ولكنها كلها تنبثق جميعها من هاجس واحد دوما، هو هاجس الأخلاق والقيم التي تؤرقنا كما تؤرق كاتبنا حسن البطران كأي كاتب أو أديب... تناولها في كبسولات / بعوضات تلمع فتنير تلك العتمة التي تغشى حياتنا، وكأنها منبهات، ترسل طنينا يرجّ آذاننا، وإشارات كهربائية تنبهنا من غفلتنا.

هذا هو دور قصص كاتبنا المبدع حسن البطران، سواء في صورتها القصيرة جدا أو في صيغتها كمكثفات رمزية قصصية قوية، أقل ما يمكن وصفه بها أنها بحجم بعوضة، قصرت أرجلها أو طالت قليلا، فكما يقال «إن الله يجعل قدرته في أضعف خلقه».

فأديبنا حسن البطران، يقف بمجموعته هذه «أصغر من رجل بعوضة»، موقف المدافع عن فن نثري جديد، يفرض نفسه وسط الساحة الأدبية العربية منذ ما يفوق عقدا من الزمن، على الرغم من أن العديد من القصاصين والروائيين قد أثثوا له منذ الستينات إلى سبعينات القرن الماضي.

لقد عرفت القصة القصيرة جدا والومضة القصصية هجوما شرسا من الرافضين لها، ككل ابتكار أدبي جديد يواجه في بداياته رفضا لأنه خرج عن السّنة

وحاد عن الطريق، كما حدث مع قصيدة النثر التي واجهت موجات من الاستياء والغضب والرفض، إلى أن أصبح فنا معترفا به بفضل إبداعات رواده وعلى هذا المنوال يسير حسن البطران شاهرا سيوف ومضاته وقصصه القصيرة جدا على امتداد منطقته بشبه الجزيرة العربية والوطن العربي الكبير، يجدد ويبدع ليصنع فنا أدبيا خاصا به، لا يقلد ولا يكرر، ولكنه يتناول قضايا موغلة في مجتمعه، فينير جوانب معتمة من مجتمعه، يلتقطها بجمالية وحِرفية ليقدمها لقرائه، تبدأ شرارة في الظلام ثم تُظهِر ببطء ما في أعماقها من قوة، لتذهل القارئ بواقع حقيقي مرير، فما هذا النوع السردي إلا لمحة خاطفة شبيهة بالبرق الذي ينتج عن اصطدام سحابتين موجبة وسالبة لتخلف دويا مُرعِدا مباغثا وقد يكون صادما غير متوقع، هذا هو الأدب الذي يحاول الكاتب حسن علي البطران في مجموعته هذه أن يدافع عنه، ويقدم لنا من خلالها مقطوعات أدبية قصيرة الأرجل وإن طالت قليلا، ولكنها تحدث ارتجاجا في ذهن المتلقى ونفسيته ليغير حساباته ونظرته لهذا الأدب القائم بذاته، ورغم انني لست ناقدة ولا يمكنني التطفل على هذا الباب، لكنني متذوقة وقارئة للابداع السردي بكل أشكاله لا سيما الجنس القصصي منه، وما يكتبه القاص السعودي حسن علي البطران مميز جداً ويستحق قراءات متعددة ويفتح أفقاً جديدة في عالم السرد القصيي القصير حداً، لأنه يمتلك إبداعاً متفرداً ومنفرداً؛ و«أصغر من رجل بعوضة» واحدة من ثلاثة عشر مجموعة أصدرها في هذا الجنس القصصي القصير جداً.

كاتبة مغربية