آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

الحرب الباردة ونشأة العلوم السياسية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

انتهت الحرب العالمية الثانية ببروز قطبين رئيسيين، يتحكّمان في مجرى السياسة الدولية، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وكانت مؤشرات الصراع بينهما قد بدأت قبل وقف طلقات البنادق؛ بل إن هناك من يشير إلى أن الهدف من استخدام السلاح النووي ضد اليابان، في هيروشيما ونجازاكي، كان توجيه رسالة أمريكية إلى الاتحاد السوفييتي، بأن التفوق في أي مواجهة عسكرية مستقبلاً، بين المعسكرين الشرقي والغربي، بات محسوماً لصالح الغرب، بسبب امتلاك أمريكا سلاح الرعب. وما يؤكد صحة هذه الفرضية، هو أن ألمانيا وإيطاليا قد هُزمتا في الحرب، وأن اليابان أعلنت استعدادها لوقف إطلاق النار، بحيث لم يعد هناك من مبرر عملياتي، لاستخدام القنبلة النووية.

اتسمت الحرب الباردة بصراع عقائدي شرس بين أمريكا والسوفييت. وبسبب غياب المنهج الأكاديمي السياسي المقارن في الجامعات الأمريكية، كان التفوق في هذا المجال لصالح السوفييت. ولذلك كان على الإدارة الأمريكية التحرّك سريعاً لملء الفراغ الفكري، لتحقيق قدر من التكافؤ في هذا المجال مع الغريم السوفييتي.

كان ضمن اللاجئين من مواطني أوروبا الشرقية، الذين وصلوا إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، والاكتساح الروسي لبلدانهم، عدد من الأكاديميين والمفكرين السياسيين، وتلك فرصة لا تعوّض لاستثمارها من قبل الأمريكيين لملء الفراغ، في الجامعات الأمريكية في مجال الفكر السياسي المقارن. وتعاونت مؤسسات ثلاث في هذا المجال، هي وكالة المخابرات، والبنتاغون، ووزارة الخارجية. وفي تلك الحقبة لمع نجم الأخوين: وزير الخارجية الشهير، جون فاستر دالاس، ورئيس وكالة المخابرات الناشئة آنذاك آلان دلاس. اضطلع الأخوان بدور بارز في المؤتمر الذي عقد بواشنطن في الخمسينات من القرن الماضي، لمناقشة تأسيس علم السياسية المقارنة. ودُعي إلى ذلك المؤتمر، والت روستو الذي تسلم منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، في عهدي كنيدي وجونسون، وأسس نظرية المراحل، وصامويل هانتنغنون، مؤسس نظرية التنمية من الأعلى، وسدني فيربا التي أسست نظرية الثقافة، وألموند باول، موسس نظرية النظام. وقد تبنّى المؤتمر هذه النظريات، وأضيفت إليها نظرية النخبة لموسكا، كما شاركت في ذلك المؤتمر نخب فكرية أخرى.

إن قراءة تلك النظريات لا يمكن عزلها عن الظرف السياسي الذي مر به العالم، والناتج عن انشطاره إلى معسكرين ونظامين اقتصاديين: رأسمالي تقوده أمريكا، واشتراكي يقوده السوفييت. فنظرية المراحل التي أسسها والت روستو، على سبيل المثال، جاءت لتبشر بالفكرة الرأسمالية، وعمادها أن جميع الشعوب ستقبل في نهاية المطاف بالديمقراطية، بالطريقة التي تُمارس بها في الغرب، وأن المستوى الاقتصادي لن يكون عائقاً للمجتمعات، بما فيها مجتمعات الدول النامية، من اللحاق بالأنظمة الديمقراطية. سيكون دور الدول الصناعية تقديم المنتجات المختلفة، وسيقتصر دور الدول النامية على تقديم المواد الخام، والقوى العاملة.

أما نظرية سدني فيربا، فهي أقرب إلى فكر العالم السوسيولوجي إميل دوركايم، من حيث تقسيم المجتمعات الإنسانية بشكل حاد إلى صناعية وزراعية، وعلمانية وغيبية، ودينامكية وساكنة، ومتقدمة ومتخلفة.

وعلى الرغم مما تدعيه نظرية الثقافة من اعتمادها على الفرضيات العلمية، فإنها عنصرية في جوهرها؛ كونها تصل في نهاية المطاف إلى دعوة شعوب العالم الثالث، إلى التسليم بقدرها، والقبول بواقعها، والالتحاق بالعالم المتقدّم، ليس من خلال تغيير واقع الحال، وإنما بالحفاظ على هويتها، بحيث يقتصر دورها على تقديم المواد الخام، والقبول بأن تكون مجرد أسواق لمنتجات الدول الصناعية المتقدمة.

وبالمثل، بات لنظرية هانتنغتون «التمنية من الأعلى» قبولاً أكبر في الحقل السياسي الأمريكي، بعد اندلاع حرب فيتنام التي بدأت بتأييد الحكومة الأمريكية، في عهد الرئيس جون كيندي، لحكومة الدكتاتور فان ديام.

في ذلك الوقت، غادرت أمريكا دعوتها التقليدية التي بدأت بها مباشرة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لإشاعة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، إلى دعم الأنظمة الديكتاتورية. وكانت نظرية هانتنغتون سلاحاً فكرياً فعالاً في هذا السياق، حيث تقول إن الأنظمة الديمقراطية غير قادرة على تحقيق التنمية في دول العالم الثالث، وإن الديكتاتورية هي السبيل الوحيد لتنمية البلدان المتخلّفة، حيث تجري في صيغة مراسيم وبأوامر تفرض من الأعلى، ومن دون ذلك يتواصل التخلف. وذلك يعني أن التدخل العسكري الأمريكي في فيتنام، هو خطوة إيجابية، على طريق نهوض الهند الصينية، والتحاق اقتصادها بالعالم المتقدم.

والأمر لا يختلف عن ذلك مع بقية النظريات الأخرى، وهكذا يبدو التلاحم واضح وجلي بين الحرب الباردة ونشأة العلوم السياسية المقارنة.